حلول للسياسات البديلة | إصلاح التعليم في مصر: هل يكفي نقل “أفضل الممارسات الدولية”؟

إصلاح التعليم في مصر: هل يكفي نقل “أفضل الممارسات الدولية”؟

  • ١٩ أغسطس، ٢٠١٩

سارة طرمان

باحثة في مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية وأستاذ زائر في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. حصلت على الدكتوراه من جامعة العلوم السياسية بباريس في 2012. تجري دراسات بحثية على مصر منذ 15 عامًا ويتركز اهتمامها البحثي على الحراك الاجتماعي ودعم الغذاء والطاقة في مصر. 

برغم الجهود المبذولة في العقود الأخيرة لتحسين جودة التعليم في مصر من خلال تبني أفضل الممارسات الدولية، لم يتحقق النجاح والنتائج المرجوة من تبني تلك الممارسات. ويمكن تعزية ذلك إلى أن تلك السياسات يتم تطبيقها دون أخذ الظروف والسياقات المحلية في الاعتبار، أو تعديل تلك السياسات الدولية بما يتوافق مع السياق المحلي. علاوة على ذلك، في معظم الأحيان يتم تبني سياسات مختلفة وتنفيذها بمعزل عن بعضها. إن تاريخ تطور قطاع التعليم في مصر يمكنه تفسير ما آلت إليه الأمور في النظام التعليمي الحالي، والذي يمكن وصفه بأنه مشوش وغير متجانس إطلاقاً. فمنذ أن جاء محمد علي، باتت كل إستراتيجية تعليمية جديدة تحاول أن تلغي مجهودات سابقتها من خلال استيراد أو فرض "أفضل" الممارسات الدولية دون النظر إلي السياقات المحلية  والبيئة المُمكِنة لتطبيق تلك السياسات، مما حول الوضع إلى مأساة تعليمية.

ماذا نعرف عن النهج الصحيح لنقل سياسات التعليم بين الدول؟

هناك إجماع عام في مجال التعليم المقارن على أهمية وإمكانية نقل الخبرات التعليمية بين البلدان من خلال تحديد الدروس الإيجابية و المستفادة من تجربة بلد ما  (Phillips, 2009; Beech, 2006). ولكن المفاهيم والآليات المتعلقة بنقل السياسات بين الدول ليست سهلة، بل معقدة وغير مباشرة. فعلى سبيل المثال، ينظر أحد التعريفات إلى عملية النقل على أنها عملية مستمرة تحدث في نقاط مختلفة على طول مسار متصل (Ibrahim, 2010; Phillips & Ochs, 2004). فعلى أحد طرفي هذا المسار، يتم فرض السياسات التعليمية فرضاً (كما يحدث غالباً أثناء الحكم الاستعماري). بينما على الطرف الآخر، يتم تبني هذه السياسات طواعية (كما يحدث عند طلب المساعدات المالية أو التقنية من الوكالات الدولية). ولكن في واقع الأمر، ونظراً لتزايد تداعيات العولمة، تتم عمليات نقل السياسات بدرجات متفاوتة بين الطوعية والإجبار تبعاً للسياق والزمان والمكان (Phillips & Ochs, 2004). ومن الجدير بالذكر، أن تبني هذه السياسات يتم الترويج له باستخدام مصطلحات غير سياسية وتقنية مثل "تبادل المعرفة" (Knowledge Sharing) و"أفضل الممارسات" (Best Practices) و "استخدام المعايير القياسية" (Benchmarking). كما أن عدم تنفيذ سياسة معينة في بلد ما لا يعني أن نقل الأفكار لم يتم. ففي عالم تسوده العولمة، يحدث نقل السياسات ضمنياً في الخطاب السياسي كنتيجة للتفاعل بين السياقين المحلي والعالمي.

نظراً لأن نقل سياسات التعليم عملية معقدة تتضمن التفاعل بين المؤسسات والأبنية الاجتماعية المختلفة، يجب فهم هذه العملية جيداً عن طريق دراسة وفهم آليات تبني السياسة ونتائجها المتوقعة في السياقين العالمي والمحلي قبل أن يتم تبنيها أو تطبيقها. تساعد دراسة السياق العالمي (Macro-level Analysis) على فهم الاتجاهات العامة والأيدلوجيات والتغيرات البنيوية الموجودة بهدف تحديد نقاط القوة/الضعف التي قد تؤثر على السياسة. على الجانب الآخر، فالاهتمام بالسياق المحلي  (Micro-level Analysis) مهم للكشف عن الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي يمكن أن تؤثر على تبني السياسات التعليمية. وعليه، يعد التكامل بين تحليل السياقين ضرورياً حيث يقدم صورة واقعية ودقيقة لعملية نقل السياسات التعليمية. ومن ثم، بينما يمكن لصناع السياسات الاعتماد على نماذج عالمية لإضفاء الشرعية على إصلاح ما أو للحصول على تمويل، الوقت اللازم للانتقال من الحديث عن السياسات إلى الفعل ثم التنفيذ يلعب دوراً هاماً في نجاح تلك السياسات والممارسات المتبناة.

تاريخ موجز لسياسات التعليم في مصر

خصائص النظام التعليمي الحالي في مصر متباينة وغير متناسقة أو متكاملة، فهناك على سبيل المثال فجوة واضحة بين التعليم الأزهري والتعليم العام، وهناك مركزية شديدة في نظام التعليم مأخوذة من النظام الفرنسي رغم اعتماد اللامركزية داخل الوزارة. كذلك، يوجد تعليم "مجاني" ذو جودة متدنية، جنباً إلي جنب مع مبادئ نيوليبرالية تدعو لخصخصة التعليم، بالإضافة إلى العديد من التناقضات الأخرى في النظام (Ibrahim, 2010). ويمكننا فهم ماهية تلك الخصائص وأصلها إذا نظرنا إلى الجهود المتكررة لإصلاح نظام التعليم منذ عهد محمد علي، حيث نجد أن نظام التعليم الحالي في مصر هو نتاج عمليات غير متسقة لنقل السياسات التعليمية. فمنذ ذلك الحين، كانت كل إستراتيجية تعليمية جديدة تسعى لإلغاء ما سبقها دون معالجة الخصائص المتأصلة التي تعوق تطور منظومة التعليم وجودته. ولتوضيح كيفية ظهور هذه الخصائص، علينا أن نستعرض بإيجاز المحطات الرئيسية لتاريخ محاولات تطوير النظام التعليمي المصري خلال القرنين الماضيين.

عندما وصل محمد علي إلى السلطة، سعى لإصلاح وتجديد نظام التعليم في مصر من خلال إدخال نظام قائم على النموذج الفرنسي، و لكن هذا النظام أوجد انقساماً حاداً بين نظم التعليم في المدارس الحديثة والمؤسسات التعليمية الدينية التقليدية. ومع حكم الخديوي إسماعيل، حفيد محمد علي، تعمقت الفجوة التي تعوق إتاحة تعليم جيد للجميع، حيث أصبح هناك ثلاثة أنواع من المدارس موجودة جنبًا إلى جنب: المدارس الأجنبية للأجانب والنخبة المصرية، والمدارس الحديثة في المراكز الحضرية، والكتاتيب للأطفال المصريين الفقراء (Ibrahim, 2010). أما في عهد الخديوي عباس الأول، حاول علي مبارك - وزير التعليم آنذاك - أن ينشر التعليم في القرى والمدن الصغيرة. ولكن ما آلت إليه الأمور أن سياساته – عن قصد أو دون قصد - قد عمقت الانقسامات الموجودة في النظام التعليمي. ففي المدن الرئيسية، كان يتم تقديم مناهج حديثة ولغات أجنبية، أما في القرى فقد اقتصر التعليم على تقديم المواد الابتدائية الأساسية فقط. وعندما استعمر البريطانيون مصر في عام 1882، ركزوا جهودهم على مواجهة آثار النفوذ الفرنسي المتأصل في التعليم آنذاك وقمع الحركة الوطنية المصرية الداعمة لإصلاح التعليم في الوقت نفسه. ومن ثم، عملت السلطات البريطانية علي تشتيت و إفشال جميع المحاولات المختلفة لنشر وتحسين التعليم في البلاد، وعاد التعليم الجيد حكراً على الأجانب وعلية القوم من المصريين.

في أعقاب الثورة المصرية عام 1952، أعلن جمال عبد الناصر حق كل طفل في التعليم العام المجاني - والذي نص عليه الدستور المصري لعام 1923 ولكنه لم يطبق مطلقاً - باعتباره إحدى سياساته الاشتراكية. ومن ثم، قامت الحكومة بتوحيد نظام المدارس الابتدائية والمناهج الدراسية. ورغم كل المحاولات لإتاحة تعليم جيد، فإن تلك السياسات في واقع الأمر قد أثرت بشكل سلبي على جودة التعليم بسبب ميزانية التعليم المحدودة والتي لم تغطي تكلفة الإصلاحات المطلوبة في ظل النفقات العسكرية الهائلة في ذلك الوقت. وبالتالي، انتشر التعليم دون النظر إلي جودته. ومع سياسة الانفتاح التي تبناها أنور السادات، بدأ دور التعليم كمنظم اجتماعي في التقلص، وتزايد دور القطاع الخاص في العملية التعليمية. كذلك، بدأت خلال هذه الفترة المنظمات الدولية، مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والبنك الدولي، أن تدعم الحكومة المصرية مالياً. وبحلول عام 1980 ، أصبحت مصر واحدة من المستفيدين الرئيسيين من برامج المساعدات التنموية الأمريكية ، وأصبح مجتمع المانحين الدوليين يلعب دوراً محورياً في تشكيل السياسات المصرية، بما في ذلك في قطاع التعليم  (Ibrahim, 2010).

التنفيذ الحالي لسياسات التعليم الدولية

منذ التسعينيات، بدأت مصر في التوقيع على العديد من الاتفاقيات الدولية لتعزيز نتائجها التعليمية مع تبني "أفضل الممارسات" دولياً و"تبادل المعرفة". منذ ذلك الحين، وبالنظر إلى الجانب الكمي، حدث تقدم في قطاع التعليم (مثل توسيع نطاق التعليم ليشمل المناطق التي يصعب الوصول إليها حيث وصل معدل القيد الصافي للمرحلة الابتدائية إلى 96.9%، وانخفضت نسبة المتسربين من المرحلة الابتدائية بين عامي 2016/2017 و 2017/2018 لتصل إلى 0.4%، ووصل معدل الانتقال من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية  بين عامي 2017/2018 و2018/2019 إلى 99%) (الكتاب الإحصائي السنوي، وزارة التربية و التعليم, 2019). ولكن إذا نظرنا إلي جودة التعليم من خلال قياس مخرجات التعلم، نجد أن معدلات التقدم ضعيفة للغاية. فبالنظر إلي نتائج امتحانات TIMSS  لعام 2015 (وهو اختبار دولي تشارك فيه أكثر من 60 دولة، ويهدف إلى قياس تحصيل الطلبة في مادتي الرياضيات والعلوم) نجد أن مصر تحتل المركز 49 من بين 50 دولة مشاركة في نتائج قدرات القراءة لطلاب الصف الرابع الابتدائي، والمركز 34 من 39 دولة في نتائج الرياضيات لطلاب الصف الثالث الإعدادي، والمركز 38 من 39 دولة في نتائج العلوم لطلاب الصف الثالث الإعدادي. 

إن الإصلاحات التربوية أو التنظيمية للعملية التعليمية - مثل تفعيل التعلم النشط واللامركزية واستخدام التكنولوجيا وغيرها - لم تحقق نجاحاً كبيراً. فبالإضافة إلى الخصائص المتأصلة في نظام التعليم المصري نتيجة للسياسات المتضاربة السالف ذكرها، تلك الإصلاحات يتم تبنيها كما هي دون النظر إلي سياقها المحلي، رغم كونها من أفضل الممارسات بالمعايير الدولية. ومن ثم، تصطدم تلك الإصلاحات عند التنفيذ بالواقع المتهالك لمدخلات التعليم السليمة. فالوضع الحالي يتضمن أساليب تقليدية في التعليم والتعلم، وكثافات عالية في الفصول، وبنية تحتية ضعيفة، وضعف هائل في قدرات المعلمين وغيرها من المدخلات التعليمية التي دون حلها يَصعُب نجاح أي إصلاح. وبناء عليه، كانت – وما زالت - إصلاحات التعليم موضع خلاف كبير من قبل مجموعات المصالح المختلفة، بما في ذلك الإصلاح التعليمي الأخير الذي يعتمد على التكنولوجيا في عملية التعليم والتعلم. فبالرغم من المقومات المحدودة لنجاح مثل هذا الإصلاح (ضعف قدرات المعلمين، والبنية التحتية الضعيفة، وفلسفة التعليم والتعلم في المجتمع المصري ... إلخ)، فإن الحكومة استمرت في تبني هذه السياسة، باعتبارها "أفضل" الممارسات الدولية الحالية، مفترضة أن تبني هذا الإصلاح – كأولوية - غير مرتبط بتطوير مدخلات التعليم الأساسية، وعلى رأسها المعلم. فكما يشير تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، "رغم أن إمكانات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم هائلة، فإن المشكلات والتحديات والقيود التي تواجهها مصر حالياً [في العملية التعليمية] تعني أن التركيز غير المبرر على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والثقة المفرطة فيها والتمويل المفرط لها بهدف الوصول إلى الإصلاحات المرجوة لعملية التعليم والتعلم، ليست مجدية ولا تحل محل الأعمال الأساسية في العملية التعليمية." (OECD، 2015، ص 134). 

إعادة النظر في تنفيذ السياسات

بناء علي ما سبق، من المهم فهم وإبراز أهمية إصلاح النظام التعليمي بالنظر إلى سياقه المحلي والعالمي معاً، بدلاً من نقل أفضل الممارسات/السياسات منفردة ودون تقييم لجدواها في ظل الوضع الراهن. فالفهم الصحيح للظروف والأولويات المحلية يساعد على بلورة وتوضيح سبب تبني/استعارة السياسات (externalization)، وكيفية تعديلها لتلائم السياق المحلي وآليات تنفيذها (re-contextualization)، ودراسة تأثيرها على الهياكل والسياسات والممارسات القائمة (internalization) (Crossley,2019). ومن ثم، أخذ السياق في الاعتبار - بأشكاله المتعددة ومستوياته المختلفة – هام لتعميق فهمنا لطبيعة وتعقيدات العملية التعليمية لتحسين فرص التنفيذ الناجح للسياسات المتبناة. كما أنه من الضروري اعتماد نهج تصاعدي (bottom-up approach) والاستماع إلى المستفيدين وأصحاب المصلحة المباشرين - مثل المعلمين - في تحسين العملية التعليمية. وبالتالي ، فإن البيئة الممكِنة - بما في ذلك العمليات والموارد والآليات الصحيحة - ضرورية لنظام تعليمي تقدمي.


المراجع

  • Beech, J. (2006). Redefining educational transfer: International agencies and the (re)production of educational ideas. In J. Sprogøe & T. Winther-Jensen (Eds.), Identity, Education and Citizenship — Multiple interrelations (pp. 175–196). Frankfurt, Germany: Peter Lang.
  • Ibrahim, A. S. (2010). The politics of educational transfer and policymaking in Egypt. Prospects, 40(4), 499–515.
  • Crossley, M. (2019). Policy transfer, sustainable development and the contexts of education. Compare: A Journal of Comparative and International Education, 49:2, 175-191, DOI: 10.1080/03057925.2018.1558811
  • OECD. (2015). Schools for Skills – A New Learning Agenda for Egypt. Retrieved from https://www.oecd.org/countries/egypt/Schools-for-skills-a-new-learning-agenda-for-Egypt.pdf 
  • Phillips, D. (2009). Aspects of Educational Transfer. In Cowen R., Kazamias A.M. (eds) International Handbook of Comparative Education (Springer International Handbooks of Education, vol. 22). Dordrecht, Netherlands: Springer Netherlands.
  • Phillips, D., & Ochs, K. (2004). Researching policy borrowing: some methodological challenges in comparative education. British Educational Research Journal, 30(6), 773-784. doi:10.1080/0141192042000279495b
  • Steiner-Khamsi, G. (2006). The Economics of Policy Borrowing and Lending: A Study of Late Adopters. Oxford Review of Education, 32(5), 665-678.
  • Steiner-Khamsi, G. (2014). Cross-national policy borrowing: understanding reception and translation. Asia Pacific Journal of Education, 34(2), 153–167.
  • Steiner-Khamsi, G., & Waldow, F. (2012). Policy Borrowing and Lending in Education. Abingdon, UK: Routledge.

الآراء ووجهات النظر المقدمة من الكتاب خاصة بهم ولا تعكس آراء ومواقف الجامعة الأمريكية بالقاهرة أو مشروع حلول للسياسات البديلة