- ١٠ فبراير، ٢٠١٩
هبة م. خليل طالبة دكتوراه في جامعة إلينوي أوربانا شامبين (الولايات المتحدة الأمريكية). وهي حاصلة على ماجستير في القانون الدولي العام من جامعة يورك (المملكة المتحدة) وبكالوريوس في العلوم السياسية والتاريخ من الجامعة الأمريكية في القاهرة. وتتركز أبحاثها على الحركات الاجتماعية، والنشاط القانوني والسياسات الريفية والاقتصاد السياسي في مصر.
تُعدُّ الضرائب، لغير المتخصصين في الاقتصاد، التزامًا ماليًّا نواجهُهُ جميعًا في معاملاتنا اليومية، لكننا نتورَّعُ أن نخوضَ في عالمها الذي يبدو معقَّدًا. ورغم ذلك، تؤثِّرُ الضرائب على معيشتنا تأثيرًا مباشرًا، وعلى آفاق الرفاهِ الاقتصادي والاجتماعي. وهي في نهاية الأمر المصدرُ الأساسي للإيرادات في معظم البلدان؛ ومن ثَم فهي تُشكِّل الموارد المستخدمة للإنفاق على الموازنة والإنفاق الاجتماعي. ولعل خير مثال على ذلك ما حدث مؤخرًا في مصر منذ تبنّي ضريبة القيمة المضافة (VAT)، وهو ما يشير إلى الأهمية البالغة للضرائب فيما يخص رفاهيتنا وآفاق العدالة الاجتماعية في مجتمعاتنا.
ولا تزال ضريبة القيمة المضافة، من بين أخواتها، نوعًا مثيرًا للجدل منذ طرحها في فرنسا في الخمسينيات. فمن جهة، يمكن لهذه الضريبة أن تكون مصدرًا مستدامًا للدخل في أي دولة، دون أن تتحدى هياكلها الإدارية، أو قدرتها على تحديد وعائها الضريبي وتنظيمه. ومن جهة أخرى، لضريبة القيمة المضافة عواقبُ مهمة على طبيعة الدولة، ونوع الاقتصاد الذي تتبنَّاه، وعلى فرص تحقيق العدالة الاجتماعية والإنصاف. وباعتبارها ضريبة مفروضة على استهلاك أفراد الشعب، لها عواقب خطيرة على توزيع الأعباء المالية عليهم، ولا سيما في السياقات التي تشهد زيادة عدم المساواة، مثل الحالة المصرية.
يمكن أن يكون فرض الضرائب وإدارتها أمرًا معقدًا، وخاصة في الدول التي فيها قطاع غير رسمي كبير. فإذا كان أكثر من نصف السكان من العمال غير مسجلين، وملايين النساء يعملن دون أجر، وآلاف المتاجر والأكشاك تقل عن عتبة التسجيل الضريبي، فكيف يمكن للحكومة أن تفرض ضريبة على الدخل؟ بالإضافة لذلك، ورغم التحدي المتمثِّل في الطابع غير الرسمي، فإن هناك تحدِّيًا كبيرًا يواجه البلدان في تحصيل ضرائب الدخل على الشركات من الشركات متعددة الجنسيات. فإذا ما نقلت الشركاتُ أرباحَها عبر ما أصبح يُعرَف الآن باسم "تآكُل الوعاء الضريبي وتحويل الأرباح" (BEPS)، ثم أبلغت البلدانَ التي تخضع فيها للسلطات الضريبية أن أرباحها صفر، فمَن إذًا سيدفع الضرائب؟!
وتلقي الحالة المصرية الضوء على أوجه القصور الرئيسية لتدني كفاءة إدارة الضرائب على الدخل وتحديد المواطنين والمعاملات الخاضعيْن للضريبة، ممّا له بالغُ الأثرِ في تحقيق هدف كل دولة من حيث "توسعة القاعدة الضريبية" (أي توسعة قاعدة الأفراد والشركات والمعاملات التي ترصدها الحكومةُ وتَفرِض عليها الضرائب). في واقع الأمر، تشير خريطة الإيرادات في مصر إلى هذا القصور الفادح: فحتى يومنا هذا، لا تزال نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر متخلفة عن الدول الأخرى ذات الاقتصادات المماثلة، بمعدل 13٪ في السنة المالية 2016/2017.
وبالإضافة إلى انخفاض معدل جباية الضرائب، يُعدُّ ضَعْفُ القدرة على تحصيل ضرائب الدخل أمرًا لافتًا. فخلال السنة المالية 2017/2018، شكَّلت ضرائبُ الدخل الفردي حوالي 10٪ من مجموع الضرائب المُحصَّلة، وكذلك شكَّلت ضرائبُ دخول الشركات نسبة مماثلة. ومع هذا كله، استمرت الضرائب على قناة السويس والبنك المركزي المصري وهيئة البترول في تكوين حوالي 15٪ من إجمالي الإيرادات الضريبية في العام نفسه.
إن الاعتماد المستمر على الإيجارات، وعلى الشركات المملوكة للدولة، يسلط الضوء على انخفاض معدلات ضرائب الدخل على الأفراد والشركات. كما يشير أيضًا إلى أن هناك تحدِّيًا كبيرًا في تحديد الوعاء الضريبي وتوسعته، في ضوء التهرب الضريبي الذي تمارسه الشركات، أو القطاع الكبير غير الرسمي، الذي يستوعب جميع أنواع الصفقات والمعاملات والخدمات.
ومع ذلك، فإن أهمية فرض الضرائب لا تنبع من حجم الموارد المعبَّأة فحسب، بل من مصدر الإيرادات المحصلة أيضًا. بعبارة أخرى، فإن مكونات السياسة الاقتصادية والمالية الضريبية لها علاقة بالأساس الطبقي للسياسة الضريبية، وآثارها المرتبطة بالتوزيع والاستهلاك والثروة. فقرار تحديد الأشخاص والمعاملات الخاضعيْن للضريبة يعكس أولويات اقتصادية واجتماعية.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن ينجم عن فرض ضرائب على الإنتاج والدخل والأرباح الرأسمالية، (خاصة إذا كانت تدريجية) آثارٌ على إعادة التوزيع. فالدخول تخضع للضريبة وفقًا لأحجامها النسبية، وتُستخدم الإيرادات الضريبية للإنفاق العام والإنفاق الاجتماعي. ومن ناحية أخرى، يُنذِر فَرْض الضرائب على الاستهلاك بسياسة تنظر إلى أنشطة الاستهلاك اليومية وأنماطه (كشراء الطعام والأثاث، وتناول الطعام في المطاعم، أو استخدام خدمات النقل والاتصالات) على أنها نشاطات خاضعة للضريبة. لذا، عندما تُفرَض الضريبة على دخول الأفراد، ثم تُفرَض عليهم مرة أخرى عند إنفاق هذه الدخول، فإنهم يتحملون أعباء أكبر، ويشهدون انخفاضًا في قدرتهم الشرائية.
ومع ذلك، فإن السياسات الضريبية تظل أدوات استراتيجية لإدارة الاقتصاد وتنمية المجتمع. وفي الوقت الذي تتجه فيه بعض الدول إلى تخفيض الضرائب على أنشطة معينة لتشجيع الاستثمار في قطاعات ما، يذهب بعضها الآخر إلى فرض الضرائب على الاستيراد لحماية إنتاجها المحلي. وفي حالة مصر، تُعفَى بعض الصادرات من الضرائب لتشجيع وجود توازن تجاري أفضل. ولتعزيز المساواة والعدالة الاجتماعية، تستطيع الدول أيضًا إعفاء العُمال ذوي الدخول المنخفضة من ضرائب الدخل، لحمايتهم من السقوط في براثن الفقر، أو ببساطة تطبيق ضرائب الدخل السلبية في هيئة مدفوعات نقدية للذين تقل أجورهم عن الحد الأدنى للأجور.
نستطيع أن ننظر إلى ضريبة القيمة المضافة على أنها تحدُّ من الاستهلاك لا الإنتاج، ومن ثَم فهي لا تؤثر على الإنتاجية، بل تؤثر على الاستهلاك ومعروض السلع المتداولة، وهذا بدوره يمكن أن يحفِّز الناس على الادخار، لأن الدخول في نهاية المطاف إما أن تُنفَق (على الاستهلاك)، وإما أن تُدَّخر. وبناء عليه، فإن ضريبة القيمة المضافة مفيدة إذا طُبِّقَت على السلع الكمالية أو غير الضرورية فقط، مما يشجع على الادخار، عوضًا عن الاستهلاك غير الصحي أو غير الضروري. ومع ذلك، هل يمكن أن تكون زيادةُ ضرائب الاستهلاك خيارًا استراتيجيًّا في إطار اقتصاد يعجز الجزء الأكبر من مواطنيه عن الحصول على الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية، أو الادخار؟
في مثل هذا الاقتصاد، ينفق الفقراءُ نسبة أكبر من دخولهم على الاستهلاك، دون أن يتمكنوا بالضرورة من تلبية احتياجاتهم الأساسية، وهو ما يعني أنهم سوف يستهلكون أكثر إذا كان لديهم دخل كافٍ لذلك. وعلى الرغم من غياب بيانات رسمية عن المدخرات ودخول الأسر وإنفاقها، فإن الدراسات تشير إلى أن نسبة كبيرة من دخول ذوي الدخول المنخفضة تذهب لشراء الأغذية والرعاية الصحية والسكن وغيرها من الاحتياجات الأساسية. لذلك، سيكون الفقراء دومًا هم أكثر المتأثرين بفرض الضرائب على الاستهلاك، مقارنةً بالأغنياء، الذين يشكِّل استهلاكهم نسبة صغيرة من دخولهم.
بعبارة أخرى، تتسبب الطبيعة التنازلية للضرائب على الاستهلاك في جعل الفقراء يدفعون الجزء الأكبر من الضرائب نيابةً عن الأغنياء. وفي الحالة المصرية، أظهرت دراسة حديثة أن المعدل الفعلي لضريبة القيمة المضافة لأفقر 10٪ من السكان (الذين يخصصون 6.4٪ من دخولهم لدفع ضريبة القيمة المضافة) يُمثل ضِعْف المعدل لأغنى 10٪ (الذي يعادل 3.3٪) (دياب، 2016).
وقد أدَّى تحول مصر إلى ضريبة القيمة المضافة إلى رفع متوسط معدل الضريبة من 10٪ (ضريبة المبيعات العامة) إلى 13٪ ثم إلى 14٪، خلال سنة انتقالية واحدة. ويصعب عزل التأثيرات التضخمية لتطبيق ضريبة القيمة المضافة عن التحرير المتزامن لأسعار الصرف، وما تلاه من تضخُّم. في الواقع، أشار المحلِّلون إلى وجود تأثيرٍ لارتفاع معدلات التضخم بنسبة 3٪ لمرة واحدة فقط، وهو ما بدا تهوينًا في ظل معدل التضخم الذي بلغ 30٪ خلال العام 2016/2017 (بحسب الجهار المركزي للتعبئة العامة والإحصاء).
أيضًا، تتضمن ضريبة القيمة المضافة الحالية، البالغة 14٪، جدول إعفاءاتٍ للمواد الغذائية الأساسية، كما أن معدلاتها أقل على سِلع وخدمات استهلاكية معينة. ومع ذلك، فإن الطبيعة التنازلية لفرض ضرائب على الاستهلاك، في سياق تتزايد فيه الفجوات بين أصحاب الدخول العليا وأصحاب الدخول الدنيا، سوف تتسبب دائمًا في نقل عبء تمويل موازنة الدولة إلى الفقراء والطبقات الدنيا من المواطنين.
منذ تبنِّي قانون ضريبة القيمة المضافة الجديد في السنوات الأخيرة، قفزت ضرائب الاستهلاك (الضرائب على السلع والخدمات) من كونها تُشكِّل 40% من إجمالي الإيرادات الضريبية في 2016/2017، إلى أن أصبحت 48% في 2017/2018. وفي المقابل، شهدت حصة كلٍّ من ضرائب الدخل على الأفراد والشركات انخفاضًا من 12٪ إلى 10٪ من إجمالي الإيرادات الضريبية خلال المدة نفسها. وتُعدُّ ضريبة القيمة المضافة (VAT) مصدرًا سهلاً ومستقرًّا لإدرار الدخل.
نظريًّا، نستطيع أن نتصور أن عجز الموازنة غير المحتمل، إذا استمر على هذا المنوال في السنوات القادمة، فإن تعديل قانون ضريبة القيمة المضافة يمكن أن يرفع معدل الضريبة إلى 15٪ أو 18٪، وهو ما يؤدي إلى موجة تضخمية كبرى أخرى، وانكماش اقتصادي في مصر. وفي حين أن الضرائب هي الشكل الأكثر استدامةً وسياديةً لتوليد الإيرادات، فإن الاعتماد على الاستهلاك الضريبي يفوق مصادر أخرى محتملة للإيرادات الضريبية، إذ يمكنه تحسين آثار توزيع الثروة. ويمكن أن يؤدي رفع كفاءة الطريقة التي يتم بها فرض ضرائب الشركات وضرائب الملكية إلى توفير مصادر مستدامة للدخل، تساهم في:
1) إعادة تحويل العبء الاقتصادي إلى أصحاب الدخول العليا
2) تحسين الالتزام بضريبة الدخل بين الفئات المهنية المختلفة
3) فرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية حتى تساهم في توليد الدخل
4) وأخيرًا، تشجيع إعادة التوزيع العادل للثروة وللأعباء المالية
المراجع
Diab, O. (2016, October). How does the VAT shift the tax burden from the rich to the poor? Egyptian Initiative for Personal Rights. Retrieved from https://eipr.org/sites/default/files/reports/pdf/how_vat_tax_burden_from_the_rich_to_the_poor.pdf [In Arabic].
Ministry of Finance. (2018, April). Analytical Statement on the State Budget Proposal: Fiscal Year 2018/2019. Egyptian Arab Republic, Ministry of Finance. Retrieved from http://www.mof.gov.eg/Arabic/%D8%B9%D9%86%D8%A7%D9%88%D9%8A%D9%86%20%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3%D9%8A%D9%87/PE/Pages/budget18-19.aspx [In Arabic].
Progress Egypt. Egypt Social Progress Indicators: Economic Policy. Progress Egypt. Retrieved from https://www.progressegypt.org/en/topic.html#economic.
الآراء ووجهات النظر المقدمة من الكتاب خاصة بهم ولا تعكس آراء ومواقف الجامعة الأمريكية بالقاهرة أو مشروع حلول للسياسات البديلة