في إصدار هذا الأسبوع، نلقي نظرة على أزمة السجائر في مصر، أسبابها، وكيفية الجمع بين حصيلة ضريبية أكبر للتبغ وصحة عامة أفضل. كما نسلط الضوء على منح الصناعة المصرية المزيد من الحوافز الضريبية في ظل التحديات التي يواجهها قطاع الصناعة في مصر، واحتياجاته لتحقيق تنمية مستدامة.

أزمة السجائر في مصر... الجميع خاسرون؟

تشهد سوق السجائر المصرية اضطرابًا مستمرًّا منذ مايو 2023، نتج عنه شح في أغلب أنواع السجائر الشعبية والمستوردة رغم عدم تغير حجم الإنتاج، وكان ارتفاع الأسعار بنسب تخطت الـ 100%، من دون زيادات رسمية معلنة. تتسبب أزمة السجائر في لجوء المدخنين إلى شراء أنواع مجهولة أو مغشوشة أو مهربة، تؤدي إلى مضاعفة الأخطار الصحية للتدخين وتقيلص الحصيلة الضريبية للدولة.

وبالرغم من التحركات الرسمية لاحتواء الأزمة، فإنها ما زالت مستمرة. وتحتاج السلطات إلى العمل بالتوازي على تفعيل الدور الرقابي بشكل أكثر جدية على المدى القصير لحماية المستهلك والموارد الضريبية المستهدفة، بالإضافة إلى تعديل السياسة الضريبية على التبغ لتحقيق معدلات أفضل للصحة العامة على المدى الطويل.

أسباب الأزمة الحالية

وتتنوع أسباب نقص السجائر وارتفاع أسعارها في الشهور الأخيرة:

1 - تضارب في الإعلان عن حجم الإنتاج الحالي

تتمتع الشركة الشرقية للدخان بحصة سوقية تقدر بأكثر من 70%، وتنتج وتبيع السجائر الأكثر شعبية في مصر وهي كليوباترا. وبمتابعة التصريحات والبيانات الرسمية لمصادر من الشركة عن حجم الإنتاج من السجائر ومدى تأثره بأزمة العملة الصعبة، وقدرته على تلبية مطالب السوق، نجد تباينًا غير مبرر خلال الـ 3 أشهر الأخيرة بين أن:

الإنتاج يتراجع وغير كافٍ في ظل نقص واردات التبغ نتيجة احتجازها في الموانئ بسبب شح العملة الصعبة، التي هبطت قيمتها في أول 5 شهور من العام الحالي بنسبة 46% عن نفس الفترة العام الماضي. وتنبأت الشركة في إبريل 2023 بحدوث الأزمة، وتوقفت مؤقتًا في مايو عن إنتاج أحد أهم أصناف السجائر الشعبية، ثم عادت إلى الإنتاج بطاقة منخفضة وقدرة على توفير 75% فقط من احتياجات السوق. كما أكدت مصادر أخرى أن الشركة أصبحت تورد 50% فقط من حصص كبار التجار منذ شهور، دون الإعلان رسميًّا عن ذلك.
الإنتاج مستمر بنفس وتيرته، وقادر على تغطية احتياجات السوق، ولم يحدث أي نقص في الكميات المنتجة.
التحرك لزيادة الإنتاج وزيادة المعروض في السوق: حيث قررت الشركة رفع حجم الكميات التي تضخها في السوق بنسبة 30% في أغسطس، ثم 15% إضافية في سبتمبر 2023. مع الاعتراف بأن زيادة الإنتاج لن تحل المشكلة، بل ستخلق طلبًا زائدًا من التجار (بغرض التخزين) قادرًا على امتصاص أية زيادة.
المخزون من المواد الخام في تناقص وتحتاج الشركة إلى غطاء دولاري كافٍ للاستمرار بنفس معدلات الإنتاج. وهو ما دفع رئيس الوزراء إلى أن يأمر بزيادة توريدات خامات التبغ. وفي نفس الصدد، ستوفر صفقة جلوبال كابيتال للشرقية للدخان 150 مليون دولار تحتاجها لشراء المواد الخام اللازمة للتصنيع.

ويشير هذا التضارب إلى وجود حالة من الضبابية الشديدة حول معدلات إنتاج وتوزيع الشرقية للدخان الحقيقية، وماهية شبكة المستفيدين والأسواق غير الرسمية التي تمتص تلك الكميات من الإنتاج المستمر أو الزائد الذي يدعيه مسؤولو الشركة.

2 - تخزين البضاعة والتلاعب في أسعارها حتى إقرار ضرائب التبغ الجديدة

أعلنت الحكومة أنها تستهدف زيادة ضريبة التبغ والسجائر -سيتم إقرارها بعد عودة مجلس النواب من إجازته السنوية في أكتوبر المقبل- بقرابة 1.72 مليار جنيه (من 86.45 مليار العام المالي الماضي إلى 88.17 مليار هذا العام). أدى هذا الإعلان المبكر دون إتمامه إلى احتكار البضاعة وتخزينها من قِبَل تجار الجملة ووكلاء الشركات والموزعين بهدف "تعطيش السوق" ثم طرحها بالأسعار التي يفرضونها في السوق السوداء، قبل أن يتم رفع الأسعار بشكل رسمي.

3 - عدم تنفيذ عقوبات الاحتكار، والتلاعب بالأسعار

بالرغم من وجود مواد قانونية تمنع تلك الممارسات، فإن هناك تجاهلًا مستمرًّا لتفعيل الدور الرقابي والتدخل لإنهاء تلك الأزمة، والذي يقع على عاتق وزارة التموين وجهاز حماية المستهلك من الأساس. يفرض قانون "حماية المستهلك" على التجار وضع السعر الرسمي على المنتج ومواجهة عقوبات شديدة في حال المخالفة. وبالرغم من قيام السلطات ببعض الحملات التفتيشية وضبط كميات كبيرة من سجائر السوق السوداء، فإن الدور الرقابي ما زال محدودًا ومقيدًا، وهو ما يثير تساؤلات عن أسباب تهاون الحكومة في الرقابة على حركة البيع والتوزيع، وضبط المحتكرين، وإنهاء الأزمة المتفاقمة.

حصيلة ضريبية أكبر وصحة عامة أفضل... هل يجتمعان؟
وبالرغم من نجاح زيادة الضرائب في الحد من استهلاك التبغ بشكل عام، فإن بيانات السنوات الماضية في مصر تُظهِر أن الرفع المستمر في ضرائب السجائر وأسعارها، لم يخفض من المبيعات أو حجم المدخنين، لعدم مرونة الطلب على السجائر، حيث يظل المدخنون يستهلكون السجائر مهما ارتفعت أسعارها. كما تؤثر تلك الزيادة بشكل رئيسي على المدخنين الأقل دخلًا. وبالرغم من أن الفقراء قد يجدون صعوبة أكبر في توفير النفقات اللازمة لسلعة مثل السجائر حال ارتفاع سعرها، فإن معدلات تدخينهم قد تظل مرتفعة من أجل التعايش مع الإجهاد وضغوطات المعيشة الدائمة المصاحبين للفقر، وقد يقلصون من غذائهم الأساسي لتوفير ثمن السجائر. وهو ما يجب أخذه في الاعتبار عند وضع السياسات الضريبية على التبغ وتأثيرها غير المتساوي على المواطنين.

ومن أجل تعزيز حصيلة الدولة الضريبية لمواجهة اختلالات الموازنة، وفي نفس الوقت تقليص عدد المدخنين لتحسين الصحة العامة للمواطنين، تشمل توصيات المختصين:

هل يحتاج قطاع الصناعة إلى مزيد من الحوافز الضريبية؟

أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي في 27 أغسطس 2023 عن حزمة من الحوافز الضريبية لتشجيع المشروعات الصناعية، وعلى الرغم من تكرار إعلان الحكومة عن تقديم حوافز ضريبية للنهوض بالصناعة، خاصةً من خلال تعديلات قانون الاستثمار (2017)، فإنها لم تحقق الهدف المرجو منها، حيث زادت نسبة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي بحوالي 1%، من 16% عام 2014/2013 إلى 17% فقط عام 2022/2021، وهو قدر ضئيل جدًّا مقارنة بالدول المثيلة. ما يشير إلى أن تقديم مزيد من الحوافز الضريبية دون معالجة التحديات الأساسية التي تواجه قطاع الصناعة المصري، لن ينهض بالصناعة، بل قد يحرم الاقتصاد الوطني من أرباح ضريبية مهمة.

قطاع الصناعة في مصر... أين تكمن المشكلة؟

لدى مصر أهمية إستراتيجية -فيما يتعلق بفرص التنمية الصناعية- على مستوى القارة الإفريقية بسبب موقعها الجغرافي، وتوافر الأراضي، وتمتعها بثالث أكبر ناتج إجمالي محلي بعد نيجيريا وجنوب إفريقيا، وثالث أكبر عدد سكان في إفريقيا. كما يتسم القطاع الصناعي المصري بالتنوع بين مصانع تكرير البترول والغزل والنسيج والصناعات الهندسية والبتروكيماوية وغيرها. ويساهم قطاع الصناعة، في تشغيل نحو 3.5 مليون عامل، أي ما يعادل 13% من إجمالي القوى العاملة في مصر، ويمثل 85% من الصادرات السلعية غير النفطية.

ومع توافر كل تلك الإمكانيات، ما زالت تواجه مصر عددًا من التحديات المؤسسية التي تعيق تحقيق النمو المستدام للقطاع الصناعي ولكنها غير مرتبطة بحجم الضرائب، وتشمل:

1. غياب البيئة المشجعة على الاستثمار الصناعي، وتتمثل في انخفاض في مؤشرات حكم القانون، وحماية حقوق الملكية، إضافة إلى غياب نسبي لقوانين مكافحة الاحتكار، والعوائق المؤسسية، كما هو موضح في الشكل أدناه بالمقارنة مع دول أخرى مثيلة:

2. قلة القدرات التكنولوجية والابتكارية والإنتاجية مقارنة بالأداء التجاري للقطاع الصناعي حول العالم، حيث تتركز أكثر من 50% من القيمة المضافة للتصنيع المحلي في صناعات ذات تقنيات غير متقدمة بالمقارنة مع دول مثل المغرب التي تنخفض فيها النسبة إلى 40% وماليزيا التي تصل مساهمة الصناعات عالية التقنية من إجمالي القيمة المضافة للتصنيع إلى 20%.

3. عدم التكامل والربط بين الصناعات التحويلية والصناعات الاستخراجية، ما يُقلل من نسب الاستفادة والإنتاجية في كثير من الصناعات.

4. عدم استقرار العملة المحلية، الذي يؤثر بالسلب في قدرة المصانع على التخطيط أو التوسع الإنتاجي.

وبما إن الحوافز الضريبية ليست حلًّا لهذه المشاكل، فمردودها في تحفيز القطاع الصناعي يظل محدودًا للغاية.

الحوافز الضريبية... العلاج الخاطئ للمشكلة

تتفق الدراسات على أن سياسة الحوافز الضريبية ليست فعالة بشكل عام، وقد وجدت بعض الدراسات أنه في حين أن الاستثمار الأجنبي المباشر يتأثر بالنظام الضريبي للبلد، فإن الحوافز الضريبية ليست بالضرورة العامل الحاسم في قرارات المستثمرين بدخول سوق معينة وإنشاء قواعد صناعية بها. وبالتالي فبدلًا من التوسع في الإعفاءات الضريبية عالية الكلفة، والتي قد تحرم الحكومة من موارد مهمة، يتطلب تحفيز القطاع الصناعي المصري إلى:

خلق مجال متكافئ للاستثمار والإنتاج الصناعي لتجنب مشكلة عدم اليقين لدى المستثمرين والمصنعين.
آلية فعالة للتنسيق بين الوزارات والوكالات على مختلف مستويات الحكومة، توجد في مصر حاليًّا 17 جهة ووزارة متقاطعة مع الصناعة، ما يؤدي إلى تضارب في السياسات والأدوار.
الشفافية والاتساق في تطبيق قوانين الاستثمار والحوافز الصناعية، بالإضافة إلى العمل على تحسين مؤشرات حماية الملكية الفكرية، وخلق آلية عادلة وناجزة لتسوية المنازعات.
التركيز في جذب الاستثمارات في قطاع الصناعات التحويلية ذات القيمة المضافة، الموجهة نحو التصدير.

للاشتراك في موجز "عدسة" الأسبوعي

"عدسة" موجز أسبوعي من "حلول للسياسات البديلة" - تقدم تحليل سريع لأهم الأخبار والتطورات المتعلقة بالسياسات المحلية، والأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للتنمية العادلة

Read Also