مقدمة

شكل الاتفاق الأمني والعسكري الذي أبرمته مصر والصومال منتصف الشهر الماضي نقطة تحول في المشهد الجيوسياسي في القرن الإفريقي (رئاسة جمهورية مصر العربية، 2024). جاء هذا الاتفاق بعد تصاعد التوتر في المنطقة على خلفية إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي في أكتوبر من العام الماضي عن الضرورة الوجودية لوصول بلاده الحبيسة جغرافيّا إلى البحر الأحمر (Elmi & Hassan, 2024; Addisstandard, 2023). فقد خسرت إثيوبيا إطلالتها البحرية عقب استقلال إريتريا عنها أوائل تسعينيات القرن الماضي (Tareke, 2013; Connell, 1993). وأثارت تصريحات آبي أحمد مخاوف الدول الساحلية الخمس المجاورة لإثيوبيا وتزايدت التكهنات حول وجهة المغامرة الجديدة لصاحب نوبل للسلام، وإذا كانت تصريحاته ناقوسا لحربه الرابعة خلال ثماني سنوات (Gardner, 2024).

اتضح في مطلع 2024 أن الصومال هي المستهدفة بالسعي الإثيوبي التاريخي والمتجدد إلى منفذ بحري، وتحديدا عند توقيع أديس أبابا مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال (صوماليلاند) الساعي إلى الانفصال عن مقديشيو منذ التسعينيات (أحمد، 2024). حصل الإقليم الانفصالي بموجب هذه المذكرة على أول اعتراف رسمي له كدولة مستقلة عن الصومال، وهو أول إقرار رسمي دولي بذلك. وحظيت إثيوبيا في المقابل على منفذ بحري عبر سيادتها على ميناء "بربرة" الواقع على ساحل صوماليلاند ذي الموقع الاستراتيجي على البحر الأحمر لمدة 50 عاما. ردت مقديشيو على مذكرة التفاهم ردّا سريعًا وحاسمًا، معتبرة الاتفاق انتهاكًا لسيادتها (أحمد، 2024). وبرزت الاتفاقية الدفاعية بين مصر والصومال في هذا السياق استجابة لما اعتبرته الأخيرة تهديدًا مباشرًا لوحدة وسلامة أراضيها. تسعى هذه المقالة إلى تحليل أبعاد هذا الاتفاق وتقييم آثاره مع تسليط الضوء على دور الاتحاد الإفريقي في إدارة هذه الأزمة المتصاعدة.

أكثر من مجرد تعاون أمني

لم يتم الإعلان رسميًّا عن بنود الاتفاقية بين مصر والصومال، لكن وزير الدولة الصومالي للشؤون الخارجية صرح بأنها تتضمن تقديم القاهرة إمدادات من الأسلحة والذخائر بجانب التدريب والمساعدة في بناء الجيش (Aljazeera Mubasher, 2024; عسكر، 2024). وأضافت تقارير صحفية أن الاتفاق يشمل نشر حوالي عشرة آلاف جندي مصري في الصومال ليحلوا محل عشرة آلاف جندي إثيوبي يعملون هناك منذ سنوات ضمن قوات حفظ السلام أو وفق اتفاقات ثنائية (MISKEEN, 2024; Hassan, 2024; Sheikh, 2024).

وفيما يبدو تنفيذًا فوريًّا للاتفاق وصلت إلى مقديشيو بعد توقيعه بأيام قليلة طائرتان مصريتان محملتان بالمساعدات العسكرية (المياني، 2024). وصاحب التوقيع على الاتفاق إعلان مصر عن تقدمها بطلب للمشاركة في قوات حفظ السلام في الصومال ATMIS المقرر تجديد ولايتها مطلع العام القادم (إمبابي، 2024). وتم الإعلان كذلك عن فتح خط طيران مباشر بين القاهرة ومقديشيو، وإعادة افتتاح السفارة المصرية في العاصمة الصومالية بعد سنوات من ممارسة أعمالها من نيروبي، بالإضافة إلى افتتاح فرع بنك مصر في الصومال (Ten Tv, 2022)، وهذه الخطوات مجتمعة تشير إلى رغبة مصر في بناء شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع الصومال وليست فقط من أجل اللحظة الراهنة.

تحولات السياسة المصرية في القرن الإفريقي

تزامن الاتفاق المصري الصومالي مع تقارب مماثل للقاهرة مع أنقرة وأسمرا وجيبوتي وتنشيط التعاطي مع الأزمة السودانية، وهو ما يمكن تفسيره في إطار سعي مصر أخيرًا إلى استعادة دورها الإقليمي وإعادة تموضعها في القرن الإفريقي وتحديث شبكة تحالفاتها في المنطقة بعد سنوات من فتور مواقفها وتراجع المبادرة السياسية لصالح سياسات ردود الفعل التي خصمت من رصيدها ونفوذها قدرًا لا يستهان به (الطويل، 2024).

أصبح التحرك المصري ضرورة خاصة بعد التهديدات التي طالت أهم قضيتين في منظومة أمنها القومي، وهما أمن المياه، وحماية الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس. فيما يخص القضية الأولى كان تصديق برلمان دولة جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي ووصول أزمة سد النهضة مع إثيوبيا إلى أفق مسدود بمثابة تفاقم لأزمة مصر الكبرى المتعلقة بتأمين حصتها من مياه نهر النيل (Tribune, 2024; Nile Basin Initiative, 2024; Fadl, 2024). أما القضية الثانية فتتجلى في التوجهات التوسعية لأديس أبابا في المنطقة وسعيها إلى امتلاك موطئ قدم وقاعدة عسكرية على مدخل البحر الأحمر إلى قناة السويس (محمود، 2024). في الوقت نفسه، يعد تراجع عوائد قناة السويس أخيرًا بعد اضطرابات الملاحة الدولية بسبب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة ضغطًا إضافيًّا على الاقتصاد المصري (بلومبرغ، 2024). إلى جانب هذا، فإن الحرب الممتدة في السودان تفرض تحديات سياسية واقتصادية على أمن المنطقة، كذلك عبر عرقلة نفاذ مصر إلى دول حوض النيل، هذا بجانب اتساع حجم نفوذ الجماعات الإرهابية المهدِّدة للأمن القومي لمصر من القرن الإفريقي والحدود الغربية معًا. (عبد الحليم، وآخرون 2024)

جذور ومقومات التقارب المصري الصومالي

لا شك أن مذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وأرض الصومال حفزت التقارب المصري الصومالي، ولكن ساهم فيه أيضًا العلاقات التاريخية الإيجابية الممتدة بين البلدين، إضافة إلى دعم مصر استقلال الصومال في فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر (White, 2024)، وجهود القاهرة لوقف الحرب الأهلية التي اندلعت عقب انهيار حكم الرئيس محمد سياد بري في أوائل التسعينيات. ورغم التراجع الملحوظ للدور المصري في أوائل الألفية عن التفاعل في المنطقة، استمر حرص مصر على إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع مقديشيو. (الهيئة العامة للاستعلامات، بلا تاريخ).

علي الجانب الآخر أعادت مذكرة التفاهم الموقعة بين هرجيسا (عاصمة الإقليم الانفصالي صوماليلاند) وأديس أبابا العداء التاريخي بين الصومال وإثيوبيا والذي بلغ ذروته في الخمسينيات من القرن الماضي عندما ابتلعت الإمبراطورية الإثيوبية إقليم أوغادين الصومالي ليدخل البلدان في نزاع مسلح عام 1964 (عبدالفتاح، 2022) وحرب شاملة استمرت خلال عامي 1977-1978 (سعد الدين، وآخرون، 2022). وعقب ذلك اجتياح إثيوبيا الصومال عام 2006 بحجة مواجهة اتحاد المحاكم الإسلامية التي وصلت إلى السلطة في مقديشيو وانتهت بالفشل (Theguardian، بلا تاريخ).

الوجود المصري في الصومال بين التحديات والمستقبل

يأتي اتفاق التعاون المصري الصومالي في توقيت غير مواتٍ لفتح جبهة صراع جديدة على ضفاف البحر الأحمر بأهميته الكبرى للتجارة العالمية، وذلك في ظل انشغال العالم بالحرب في أوكرانيا وغزة (Hassan, 2024; Ngoga et al., 2024). وكذلك التنافس المحموم بين القوى الدولية في منطقة الساحل الإفريقي إلى جانب أزمة السودان وتداعياتها الممتدة في المنطقة (Le Monde, 2024; Twinning, 2024; Hassan, 2024). وبالرغم من ذلك هناك شبكة متداخلة من التحديات قد تواجه المقاربة المصرية في الصومال نذكر منها:

أولًا: تهديدات أمنية متمثلة في حركة الشباب المجاهدين بالصومال، وهي أشرس أفرع تنظيم القاعدة بالمنطقة، التي تسيطر على مساحات معتبرة من البلاد وتتمتع بجهاز استخباراتي وتنظيمي قوي، مكنها من تنفيذ عمليات عابرة للحدود الصومالية في كينيا وإثيوبيا (Payne, 2024).

ثانيًا: هشاشة وعدم استقرار الجبهة الداخلية في الصومال التي تعمقت عقب سعي الرئيس حسن شيخ محمود إلى تعديل الدستور وإقرار زيادات ضريبية (Ahmed, 2024; Mahdi, 2024). وهو ما قد يضعف مؤسسات الدولة وفعاليتها في مواجهة التهديدات المطروحة (جيسكا، 2024).

ثالثًا: التدخل الإثيوبي عبر وكلاء محليين أو بالتحالف مع حركة الشباب لإضعاف فعالية التقارب المصري الصومالي باعتباره يشكل تهديدًا لمصالح أديس أبابا التي تبنت بعد فشل اجتياحها الصومال عام 2006 سياسة احتوائية وأسست نفوذًا معتبرًا في المنطقة (Wafula, 2024).

وبناءً على ما سبق يمكن أن تتكشف عدة سيناريوهات مستقبلية، أولها اشتعال المنطقة بالكامل وانزلاقها إلى حرب مفتوحة أو بالوكالة في حال مضي إثيوبيا قدمًا في مذكرة التفاهم مع أرض الصومال خاصة بعد إعلان أديس أبابا تعيين سفير لها في هرجسيا (الجزيرة، 2024) وعدم التعاطي بإيجابية مع مبادرة جيبوتي التي عرضت ميناء تاجورة التابع لها ليكون تحت إدارة أديس أبابا بشكل كامل (حسن، 2024). فضلًا عن التقارير الصحفية التي تشير إلى حشد للقوات الإثيوبية على الحدود مع الصومال، وعن عزم إدارة آبي أحمد الاعتراف بالإقليم الانفصالي(Al Arabiya, 2024 ; Africa, 2024; Addisstandard, 2024).

ثانيًا، نجاح جهود المصالحة التي تبذلها أطراف إقليمية مثل تركيا في تقريب وجهات النظر بين مقديشيو وأديس أبابا (ندا، 2024). فضلًا عن الضغوط التي قد تمارسها القوى الدولية والإقليمية لخفض التصعيد، خاصة بعد تغير طبيعة الصراع عقب التحركات المصرية الأخيرة وتمسك الصومال بموقفها المتسق مع القانون الدولي (addisstandard, 2024).

وثالثًا، استمرار وتصاعد التوتر والنزاع الدبلوماسي في المنطقة وتزايد حدة المنافسة الإقليمية والعالمية على النفوذ إذا ما سعى كل طرف إلى تعظيم مكاسبه وتحقيق مصالحه المباشرة بالنظر الي الأهمية الجيوسياسية للقرن الإفريقي لهذه الأطراف كافة.

خاتمة: أجندة 2063 ومبادرة "إسكات البنادق"

أعلن الاتحاد الإفريقي في أوائل العقد الثاني من الألفية الجديدة عن خطة طموحة لتسريع النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة بعنوان: "أجندة 2063 - إفريقيا التي نريدها". كان من أهم مشاريع هذه الخطة مبادرة "إسكات البنادق" (أبوبكر، 2020)، التي تهدف إلى إنهاء جميع النزاعات المسلحة في القارة مع اعتماد مبدأ "الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية". وبالرغم من الجهود المبذولة في هذا الإطار وتعدد الأجهزة المعنية بتحقيق هذا الهدف داخل أمانة الاتحاد الإفريقي فإن الواقع العملي يخبرنا بنجاح محدود في هذا المجال. وبالنظر إلى منطقة القرن الإفريقي نلاحظ عجزًا واضحًا في التعامل مع الأزمات ما تسبب في ارتفاع حدة التوترات في المنطقة بدءًا من أزمة سد النهضة، مرورًا بحرب التيغراي، ثم الصراع في السودان، انتهاءً بمذكرة التفاهم بين أرض الصومال وإثيوبيا. والمذكرة الأخيرة زادت من التساؤلات حول مدى النفوذ الذي تتمتع به إثيوبيا داخل أروقة المؤسسة القارية التي تحتضن أديس أبابا مقرها الرئيسي خاصة، وأن المذكرة تتعارض مع أحد المبادئ المؤسسة لمنظومة العمل الإفريقي المشترك وهو "الحفاظ على الحدود الموروثة عن الاستعمار" (عبدالحليم، وآخرون، 2024).

وعليه يجب العمل لتعزيز فعالية الاتحاد الإفريقي في الاستجابة إلى مثل هذه التحديات المتزايدة في القارة والتي تعيق محاولات النهوض بها. وبالتطبيق على القرن الإفريقي فقد تساهم الاتفاقية الدفاعية بين مصر والصومال في إسكات البنادق وتمهيد الطريق نحو الاستقرار والتنمية المستدامة -باعتبار أن الاتفاقية قد جعلت معادلة القوة في المنطقة أكثر توازنًا- ومن الممكن مع تولي مصر رئاسة مجلس السلم والأمن الإفريقي في أكتوبر 2024 تنسيق الجهود والخبرات بين القاهرة ودول القرن الإفريقي بما فيها إثيوبيا لمواجهة الظاهرة الإرهابية المتزايدة. وكذلك الوصول إلى حلول سلمية للصراعات سواء كانت داخلية أو إقليمية على أن يتم ذلك بالتوازي مع السعي إلى تعزيز التكامل الاقتصادي فيما بين هذه الدول عبر مبادرة أخرى مهمة ضمن أجندة 2063 وهي اتفاقية "منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية"، التي صدَّق عليها حتى الآن 47 دولة إفريقية. وتهدف الاتفاقية إلى إنشاء أكبر منطقة تجارة حرة في العالم (ماهر، 2024)، ولكن يبقى هذا كله رهن توافر الإرادة السياسية أولًا لدى الحكومات واختيار سبيل التعاون المشترك بما يعود بالنفع عليها وعلى شعوبها معًا. فقد تمثل الاتفاقية الدفاعية بين مصر والصومال فصلًا مهمًّا للعلاقات بين البلدين وتحمل فرصًا، وعلى القاهرة ومقديشيو التعامل معها بحكمة بما قد يحقق الاستقرار والتنمية المستدامة في منطقة القرن الإفريقي.

مراجع

English References