- ٢٨ يونيو، ٢٠٢١
صحفي عمل في مجال الكتابة عن الاقتصاد المصري منذ 2004 في صحف ومواقع مصرية ودولية، وله أبحاث منشورة مع دور نشر ومنظمات حقوقية مصرية.
رأى البعض أن الإعلان عن وقف نشاط شركة الحديد والصلب بحلوان مجرد تحصيل حاصل فنحن نتحدث عن شركة تسجل خسائر صافية منذ سنوات طويلة، بالرغم من ذلك أثار قرار التصفية في نهاية مايو الماضي عاصفة من النقد، لا يرجع ذلك إلى غلبة العاطفة على مشاعر المتابعين لهذا الملف، ولا إلى سيطرة الإيديولوجيا على عقولهم، ولكن لأن التصفية كان لها العديد من الدلالات المهمة على أحوال الطبقة العاملة في مصر. نحاول في هذا المقال أن نحلل المعنى الرمزي لغياب الحديد والصلب، ما الذي يعنيه انسحاب الدولة من الاستثمار وما هي أحوال الطبقة العاملة تحت سيطرة القطاع الخاص ؟
القطاع الخاص كقائد للتنمية؟
"قبل أن يأتي شهر مايو من عام 1954 لم تكن التبين سوى قرية من قرى محافظة الجيزة" هكذا يصف الباحث عاطف فتحي عملية التحول الكبيرة في المجتمع الريفي بالتبين بفضل تأسيس شركة الحديد والصلب، في واحدة من الأعداد القديمة لمجلة قضايا فكرية (Fathy, 1987). ولسنوات طويلة ظل مجتمع الحديد والصلب في حلوان محل تقدير من قبل العديد من المراقبين، باعتباره نموذجا على استثمار الدولة في تشغيل العمالة بصناعة ذات قيمة مضافة عالية، وتأسيس مجتمع أكثر تطورا حول هذه الصناعة يكتسب الطابع المديني من حيث توفير الوظائف المستقرة والخدمات العلاجية والتعليمية والترفيهية.
ومرت الشركة بمرحلتي تطور أساسيتين، الأولى في الخمسينات والتي اعتمدت فيها على التكنولوجيا الألمانية والثانية في السبعينات.ثم تلا ذلك أعمال تطوير متفرقة خلال الثمانينات والتسعينات وعامي 2009 و2010، لكن ظلت مشكلات الشركة المزمنة مستمرة معها، وأهمها حاجة العديد من المصانع التابعة لها للإحلال والتجديد (Alborsa, 2020).
ملف الحديد والصلب كان واحدا من ملفات القطاع العام التي اختلف الكثيرون بشأنها، بين من رأوا أن هذا القطاع انطوى على تناقضات - بين أهدافه التصنيعية ودوره الاجتماعي - قادته إلى تفاقم مشكلاته المالية، وآخرون اعتبروا أن الدولة تعمدت منذ التسعينات تجفيف استثماراته لإزاحة الطريق أمام القطاع الخاص.
خلال تلك العقود كان الرهان على دور بديل للقطاع الخاص في التشغيل وتعميق الصناعة وتوفير الوظائف المستقرة، لكن الصورة الحالية تعكس الكثير من أوجه النقص في أداء هذا الدور.لاشك أن العديد من المجتمعات الصناعية الجديدة نشأت بعد القطاع العام، بجانب التوسع الكبير في النشاط الخدمي، لكن الاستثمار الجديد لم يكن كافيا لاستيعاب العمالة المتزايدة. إذا نظرنا لمعدل التشغيل، وهو المؤشر الذي يعبر عن نسبة من يعملون إلى مجمل السكان القادرين على العمل، سنجد أنه منذ بداية عقد الخصخصة في التسعينات وإلى الآن يدور هذا المؤشر حول مستوى 40% في مستوى أدنى من متوسط معدل التشغيل في البلدان التي تقع في نفس تصنيف مصر من حيث مستوى الدخل (World Bank, 2021).
شكل ١
معدل التشغيل - مصر و البلدان ذات الدخل المتوسط
المصدر: (World Bank, 2021)
في نفس الوقت، كان القطاع الخاص صاحب عمل سيء للغاية مقارنة بالقطاع العام من حيث توفير فرص العمل المستقرة ذات الامتيازات، هذا هو ما تخبرنا به بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ففي الوقت الذي يغطي فيه القطاع العام نحو 92% من العاملين فيه بالتأمينات الاجتماعية، فإن حوالي 35% من العاملين في القطاع الخاص داخل المنشآت هم فقط من يتمتعون بهذه الميزة، وهؤلاء أفضل حالا مقارنة بمن يعملون في القطاع الخاص خارج المنشآت حيث تتم تغطية نحو 10% فقط.ويبدو نفس الفارق الواضح عند مقارنة نسبة من يعملون بعقد قانوني في القطاع العام، والذين يقتربون من 100% مقابل 29.3% في القطاع الخاص داخل المنشآت و1.3% في القطاع الخاص خارج المنشآت (CAPMAS, 2019a).
هذا بجانب غياب الرؤية التخطيطية للتكامل داخل القطاع الصناعي، وهو ما يعوق تطوره، يظهر ذلك بشكل واضح في آخر تعداد للمنشآت الاقتصادية أجراه الجهاز المركزي للإحصاء في 2018، والذي تناول مسألة الطاقات الصناعية العاطلة، وجاء في مقدمة الأسباب التي ذكرتها المنشآت الداخلة في هذا التعداد مصاعب التسويق، منافسة الأجانب، عدم توافر المواد الأولية وقطع الغيار، بينما أقلية بين هذه المؤسسات هي التي أرجعت سبب المشكلة إلى نقص العمالة المدربة (CAPMAS, 2019b) .
هل أهملت الدولة القطاع العام ؟
يدافع مسؤلو الدولة عن السياسات الراهنة تجاه القطاع العام، مروجين لفكرة أن الإصلاح يجري على المنشآت الممكن إنقاذها، وأن الحديد والصلب لم تكن قابلة لهذا الإصلاح. يشير مسؤولون لنموذج مثل الدلتا والصلب، والذي نجح وزير قطاع الأعمال الحالي في وضع مخططات لرفع إنتاجها السنوي من 40 ألف طن إلى 500 ألف طن.
كذلك بُذلت جهود لتخفيض مديونيات الحديد والصلب، ودراسة أهم المشكلات الراهنة للشركة والتي كانت تتوزع بين انخفاض الطاقة التشغيلية إلى نحو 11% وارتفاع تكاليف الإنتاج والاعتماد على طاقة الفحم، الذي يتم استيراده من الخارج، لكن الدولة رأت أن كل محاولات التطوير استنزفت ولا مفر من التصفية (Alshorouk, 2021).
ربما يكون من الصعب أن نصدر حكما هل كانت الحديد والصلب قابلة للتطوير أم أن التصفية كانت واجبة، نظرا لغياب الكثير من البيانات الفنية التي تمكننا من الحكم على ذلك، لكننا معنيين في هذا المقال بما كانت تمثله الحديد والصلب من حضور للدولة في مجال الصناعة والتشغيل، وعلى هذا الصعيد نستطيع أن نؤكد أن دور الدولة منذ عقود كان يتسم بالانسحاب المتعمد.
بحسب بيانات جهاز الإحصاء، انخفض عدد المنشآت التي تنتمي للقطاع العام وقطاع الأعمال العام وتعمل في مجال الصناعات التحويلية من 538 عام 2003 إلى 288 منشأة عام 2017، وتراجع معها عدد المشتغلين في هذه المنشآت من 364.1 إلى 222.8 ألف عامل (CAPMAS, 2019c; CAPMAS, 2004).
لم يسهم غياب القطاع العام في نقص الوظائف فقط، ولكن في عزوف الفئات الهشة في المجتمع عن العمل، نتحدث هنا عن النساء على وجه التحديد، واللاتي يعانين بشدة في ظل ظروف العمل غير المستقرة في القطاع الخاص التي تعكسها بيانات التأمين الاجتماعي والتعاقد القانوني التي عرضناها في الفقرة السابقة. في ظل محدودية فرص العمل لدى الدولة، وباعتبارها الفرص الأكثر استقرارا، تعزف الكثير من النساء عن العمل لدى القطاع الخاص لارتفاع مخاطر التعرض للتسريح أو لشروط العمل القاسية في الأوقات الصعب مثل فترة الحمل وما بعد الإنجاب، ربما يفسر لنا ذلك انخفاض معدلات التشغيل بين النساء لمستويات شديدة التدني وصلت إلى 12.2% في (CAPMAS, 2019a) 2019. غياب القطاع العام لا يعني فقط تراجع الدولة عن توفير الوظائف بشروط كريمة، ولكن أيضا غياب دور هذه المنشآت الإنتاجية في العمل لصالح أهداف قومية.
الحديد والصلب كملكية شعبية
كان القطاع العام جزءا من منظومة متكاملة، توفر له الدولة التمويل من أجل أن يقوم بضخ الاستثمارات في مجالات صناعات ثقيلة مثل الحديد والصلب أو صناعات متقدمة تكنولوجيا مثل التلفزيونات والسيارات أو لإنتاج سلع بأسعار مناسبة لطبقات شعبية واسعة مثل إنتاج الملابس.
صحيح أن هذا النموذج انطوى على تناقضات عدة كانت تعرقل قدرته على الاستمرار، مثل تراكم المديونيات وعدم القدرة على توفير العملة الصعبة لاستيراد مدخلات الإنتاج، لكن في ظل حضوره الشاحب[i] أصبح البعد الاجتماعي غائبا عن السوق، وصرنا أسرى للعمل لساعات طويلة من أجل تدبير الحد الأدنى من ضرورات المعيشة.
ويضاف إلى ما سبق أن بناء القطاع العام قام على فكرة لها أصول في الفلسفة الماركسية وهي ملكية العمال لوسائل الإنتاج، صحيح أن التطبيق العملي لهذه الفكرة لم يكن بالصورة الوردية، في ظل ميل السلطة لسيطرة الأمن على العمل النقابي، لكن ظروف العمل المستقرة في القطاع العام جعلته بيئة أكثر تأهلا لتنظيم العمال للدفاع عن حقوقهم مقارنة بالقطاع الخاص.
في مقال منشور خلال الثمانينات يتحدث المؤرخ العمالي أمين عز الدين عن "عزلة القيادات النقابية" عن جماهير العاملين، وسيطرة " الشكلية الجوفاء" على تمثيل العمال في مجالس إدارات القطاع العام، لكن في المقابل "نشأت قيادات بديلة غير رسمية أثبتت قدرتها الخارقة على معايشة القواعد العريضة للعاملين والاحساس الصادق بهمومها ونبضها والتعبير الأمين عنها. كما أثبتت قدرتها على التحرك المنظم في الوقت المناسب حول مطالب العاملين، فيما اصطلحنا على تسميته بالإضرابات غير الرسمية" (Ezzeldin,1987).
وشهد نهاية هذا العقد واحدة من أهم تلك الاحتجاجات وهي اعتصام عمال الحديد والصلب لسنة 1989، والذي تعاملت معه الدولة بعنف أمني لافت للنظر. ومع انطلاق عمليات التصفية المتسارعة للعديد من المواقع الصناعية المملوكة للدولة، كانت الأجيال الجديدة تنتقل إلى القطاع الخاص، وهناك خضعت لقانون العمل الجديد الصادر في 2003، والذي يرى المؤرخ العمالي جوئل بنين أن من أهم أدواته كان ترسيخ فكرة التحول من علاقات العمل الدائمة إلى المؤقتة، وساهم هذا الطابع المؤقت في إضعاف قدرتها على التنظيم للمطالبة بحقوقها (Beinin, 2012).
باختصار فإن أكثر ما نفتقده في غياب الحديد والصلب وأخواتها من شركات القطاع العام هو نموذج المجتمع القائم على العمل الصناعي، بكل ما يعنيه هذا النموذج من توجه سياسات الدولة نحو تحفيز السياسات القائمة على التشغيل في الصناعة، وتوفير بيئة عمل مستقرة تمنح العمال الحرية الكافية لتنظيم أنفسهم وتحسين شروط عملهم.
ليس بالضرورة أن يتحقق هذا النموذج في إطار الملكية العامة للدولة، من الممكن أن يتحقق أيضا في إطار الرأسمالية الخاصة ولكن في ظل حضور حقيقي للدولة في سياسات السوق، سواء على صعيد بيئة استثمارية منحازة للصناعة، أو دعم كياناتها الرقابية وعلى رأسها وزارة القوى العاملة من أجل الحد من تفاقم اللارسمية في علاقات العمل، وأخيرا دعم الحريات النقابية.
------------------
[i] لاتزال هناك بعض ملامح الدور الاجتماعي للقطاع العام مثل الدور الذي تقوم به القابضة للصناعات الكيماوية في توفير الأسمدة المدعمة، لكن العديد من أعمال التطوير في المصانع العامة اليوم أصبحت تستهدف بشكل رئيسي العمل بمنطق السوق.
المراجع
الآراء ووجهات النظر المقدمة من الكتاب خاصة بهم ولا تعكس آراء ومواقف الجامعة الأمريكية بالقاهرة أو مشروع حلول للسياسات البديلة