يتجه اهتمام العالم بأسره اليوم نحو مكافحة جائحة كوفيد – 19 وتحديد ملامح التعافي المستدام، ويأتي هذا بالتوازي مع استفحال أزمة أخرى على نفس القدر من الخطورة، لا بل قد تكون أخطر: ألا وهي تغير المناخ. فكما هو الحال مع كوفيد – 19، سوف يؤدي تغير المناخ حتماً إلى انهيار اقتصاداتنا وأنظمتنا الاجتماعية على حين غفلة.

شهدت مصر، خلال الفترة 12-14 مارس 2020، ظروفاً جوية قاسية لقبها الجمهور بـ "عاصفة التنين". ووصفت هيئة الأرصاد الجوية المصرية الأمطار الغزيرة والعواصف القوية والعواصف الرملية "غير المسبوقة" بأنها أسوأ طقس شهدته مصر منذ 1994. وفي الآونة الأخيرة شهدت مصر، وهي بلد معروف بمناخها الجاف والدافئ، تساقط أمطار غزيرة وحدوث فيضانات بتواتر أكبر وذلك بسبب آثار تغير المناخ. وفي أواخر أكتوبر 2019، نتج عن إحدى العواصف الممطرة فوضى مرورية في شوارع القاهرة مما كشف عن هشاشة البنية الأساسية الحالية للتعامل مع أزمات مماثلة.

أزمة عالمية

وقّعت 195 دولة من ضمنها مصر على اتفاق باريس 2015 لمكافحة تغير المناخ والتكيف مع آثاره على مستوى العالم. ويهدف الاتفاق إلى تحديد ارتفاع درجات الحرارة بـ 1,5 درجة مئوية مقارنة بمستويات ما قبل العصر الصناعي على ألا تتجاوز درجتين مئويتين بحلول 2100. وبالإمكان تحقيق هذا من خلال التحولات في أنماط الاستهلاكات المجتمعية وخفض انبعاثات غازات الدفيئة بمعدلات طموحة عبر تحويل كل الاقتصادات المعتمدة على الوقود الأحفوري إلى الاعتماد على مصادر طاقة بديلة – مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح- واتخاذ تدابير محددة في قطاعات أخرى (مثل كفاءة استخدام الطاقة في الصناعة، واستغلال النفايات واستعادتها، وتحسين إدارة الأراضي الزراعية). وهذه هي الخطوة الأولى نحو "تخفيف آثار" تغير المناخ حيث تهدف إلى منع أو خفض انبعاثات غازات الدفيئة مقارنة بسيناريوهات العمل كالمعتاد.

ومع ذلك، ستظل الزيادة في درجات الحرارة التي تم تحديدها كارثية بالنسبة للعديد من المناطق. ففي حال عدم اتخاذ إجراءات عالمية عاجلة، ستؤدي درجتين مئوتين من الاحترار إلى تعريض حوالي 100 – 400 مليون شخص لخطر المجاعة فيما قد يُحرم 1 – 2 مليار شخص من إمكانية الوصول إلى إمدادات كافية من المياه (البنك الدولي، 2018). ومن المتوقع أن يتسبب تغير المناخ خلال الفترة 2030-2050 في حدوث 250000 حالة وفاة إضافية سنوياً ونزوح 140 مليون شخص في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية (البنك الدولي، 2018). علاوة على ذلك، قدرت دراسة صادرة عن معهد البيئة والأمن البشري التابع لجامعة الأمم المتحدة في 2015 أنه قد يتم تهجير 200 مليون لاجئ بسبب تغير المناخ من مدن في الشرق الأوسط وجنوب آسيا بحلول 2050.

التكيف مع المحتوم

يعد الفقراء والمحرومين الذين يعيشون في مناطق معرضة للخطر/غير رسمية الفئة الأكثر تأثراً بالكوارث الطبيعية ومخاطر تغير المناخ. حيث أن قدرتهم على التكيف هي أقل مقارنة بالأغنياء، كما أنهم أكثر عرضة للوفاة أو الإعاقة والزيادات الحادة في أسعار الغذاء. وبالتالي، فإنه لا مفر من اعتماد النهج الثاني الموازي المتمثل في "التكيف" حيث ينطوي على تعديلات في الهياكل والسلوكيات الاقتصادية للحد من ضعف المجتمع أمام آثار تغير المناخ. فبالإضافة إلى تزايد طلب سكان مصر على المياه والندرة المتوقعة للمياه بسبب تشغيل سد النهضة الكبير في إثيوبيا، يشكل تغير المناخ خطراً على وفرة المياه العذبة. ومن المحتمل أن يقوم هذا بدفع البلاد أكثر فأكثر نحو ندرة شديدة في المياه (أقل من 500 متر مكعب للفرد) في المستقبل القريب. وثمة أثر آخر وهو الذي سيطال المناطق الساحلية، لا سيما مع ارتفاع مستوى البحر في دلتا النيل[i]، حيث من المتوقع أن يصل إلى 100 سم بحلول 2100. وسيؤثر تسلل المياه المالحة الناتج عن ذلك على نوعية طبقات المياه الجوفية، والأراضي الزراعية، ومصائد أسماك المياه العذبة؛ وبالتالي، سيؤدي إلى انخفاض انتاج الغذاء على المستوى الوطني بنسبة 11-51 في المائة مما سينتج عنه آثاراً اجتماعية-اقتصادية شديدة: تدمير البيوت والبنى الأساسية، ووقوع خسائر في الأرواح، وهجرة السكان المتضررين، وزيادة البطالة، وزيادة حالات المخاطر الصحية وانتشار الأمراض.

مصر وتغير المناخ

بدأت مصر بوضع هياكل مؤسسية وطنية لمكافحة تغير المناخ منذ 1996. وتم إصدار الاستراتيجية الوطنية للتكيف مع التغيرات المناخية والحد من مخاطر الكوارث الناجمة عنها في 2011 حيث حددت القطاعات المتأثرة بتغير المناخ والتدابير اللازمة لتمكينها من التكيف مع قساوته. وفي 2015، تم تشكيل المجلس الوطني للتغيرات المناخية برئاسة وزير البيئة لتمثيل طيف عريض من الممثلين الحكوميين وغير الحكوميين. وتقوم مصر بتقديم إبلاغات دورية إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ حول التدابير التي تزمع القيام بها، وتلك التي قامت بها فعلاً، لمكافحة التغييرات المناخية، وانعكست هذه الإبلاغات في تقرير المساهمات المحددة وطنياً في مصر (2015)، وتقرير الإبلاغ الوطني الثالث (2016)، والتقرير الأول من سلسلة التقارير المحدثة كل سنتين (2019). وعليه، تم تنفيذ تدابير التكيف (أي تركيب حواجز الأمواج على سواحل المدن الرئيسية في منطقة الدلتا للحد من آثار ارتفاع مستوى البحر على السكان) لتعزيز القدرة على الصمود في قطاعات المياه والزراعة والمناطق الساحلية والصحة والطاقة والسياحة. هذا بالإضافة إلى رؤية مصر 2030 التي تشمل الأسس الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية بما يتماشى مع جدول أعمال الأمم المتحدة 2030 للتنمية المستدامة.

وفي الآونة الأخيرة، نشطت مصر على الساحة السياسية الدولية في تعزيز الموقف الإقليمي بشأن تغير المناخ من خلال تعيين الرئيسي السيسي منسقاً للجنة رؤساء الدول والحكومات الأفارقة المعنية بتغير المناخ. غير أن السؤال المطروح يتمثل فيما إذا كانت البلاد مستعدة للتعامل مع عواقب تغير المناخ القادمة، التي لا يمكن إنكارها، وحماية سكانها الأكثر ضعفاً، وهل سنتعلم من أزمة كوفيد – 19 في الوقت المناسب بحيث يكون من الممكن الاستعداد لصدمات تغير المناخ القادمة؟ وعلى الرغم من أجراس الإنذار التي تصم الآذان، فإن الاهتمام المولى إلى أزمة المناخ لا يتناسب مع إلحاحية وحجم التهديدات الناجمة عنها، وكثيراً ما يتم إغفالها عند تنفيذ المشروعات الوطنية الضخمة وخطط التنمية.

الفقر مقابل تغير المناخ

ومن حيث الجوهر، تعمل سياسات الحد من الفقر أيضاً كسياسات تخفيف آثار تغير المناخ والتكيف معها. وينبغي أن تكون الأولوية الأولى للتكيف مع آثار تغير المناخ هي تعزيز التنمية في التجمعات العمرانية غير الرسمية التي تدور في حلقة الفقر المفرغة. فلن يقتصر أثر ذلك على جودة حياة الناس فقط، بل سيكون أحد أفضل السبل لتعزيز قدرة المجتمعات على الصمود أمام تهديدات المناخ. ولا تزال استراتيجية مصر الوطنية للتكيف بحاجة إلى مزيد من التفصيل من خلال وضع خطة وطنية للتكيف، يتم مواءمتها مع أهداف البلاد للقضاء على الفقر والتي تمت الإشارة إليها في رؤية مصر 2030.

وينبغي أن تشمل التدابير المحددة القابلة للتنفيذ نظماً مبتكرة للحماية الاجتماعية تدعم صمود المجتمعات بحيث تتوقع وتستوعب مخاطر المناخ وتتكيف معها. ويمكن أن تتضمن هذه التدابير: تحويلات نقدية عن طريق الهاتف المحمول في حال حدوث أزمة، وإعانات لتحسين الأمن الغذائي، وتأمين قائم على المؤشرات ضد مخاطر الطقس للمزارعين،[ii] ونظم لتيسير التنقل وإعادة التوطين الفعالة للمجتمعات المتأثرة بالمناخ. ويفضل أن يتم إدماج هذه التدابير في شبكات الأمان الاجتماعي القائمة التابعة للحكومة (أي، بعد إلغاء إعانات الطاقة) والآليات المستقبلية المزمعة (أي، البطاقة الذكية للمزارع)، إضافة إلى جعلها قابلة للتطوير ومستهدفة بشكل جيد.

ثانياً، يعتبر إذكاء الوعي وتبادل المعلومات بشفافية أمراً ضرورياً لإعداد الجمهور للتكيف مع آثار تغير المناخ. وثبت أن هذه التدابير هي بنفس أهمية السياسات التي وضعتها الحكومة خلال جائحة كوفيد-19. ويكاد تغير المناخ أن يكون غير مذكور في وسائل الإعلام المصرية والمناهج المدرسية والجامعية. فيما تعد الوثائق الرسمية المنشورة تقنية وشديدة التعقيد ويقتصر فهم المعلومات المتاحة إلى حد كبير على أوساط المهنيين والأكاديميين. علاوة على ذلك، ينبغي تعزيز نظم الإنذار المبكر وإتاحتها للجمهور بشكل بسيط وفعّال من خلال تطبيقات الهواتف المحمولة، ووسائط الإعلام وغيرها من القنوات. كما يمكن زيادة أموال الطوارئ والمعونات الإنسانية نتيجة للتحسينات التي تم إدخالها على أنظمة الإنذار المبكر هذه.

ثالثاً، تعد النهج التشاركية التي تمكن المجتمعات المحلية المتضررة عنصراً أساسياً للحل. فإشراك المجتمعات في تحديد الأولويات والتخطيط وتنفيذ تدابير التكيف سيضمن وعي الناس وجهوزيتهم في أوقات الأزمات. ومن شأن التعبير عن شواغلهم وإدماج أفكارهم أن ييسر إجراء الحوارات اللازمة وتبادل المعرفة مع المسؤولين المعنيين. كما أن بإمكان منظمات المجتمع المدني التأثير على صناع القرار فيما يتعلق بصياغة برامج التكيف التي تستجيب لاحتياجات المجتمعات الفقيرة والمهمشة. ويجب أن يتم تشجيع التعاون مع القطاع الخاص تحت مظلة المسؤولية الاجتماعية للشركات، حيث أن جهود الحكومة وحدها لن تكون كافية كما بدا جلياً لنا خلال أزمة كوفيد-19.

أخيراً، ينبغي توجيه الاستثمارات الجديدة إلى تصميم مبان وهياكل أساسية قادرة على التكيف مع المناخ. ومن شأن هذه الهياكل استيعاب الاضطرابات الناتجة عن تغير المناخ وتخفيف آثاره مع الاحتفاظ بوظائفها الأساسية (أي كفاءة استخدام الطاقة/خفض انبعاثات الكربون إلى الصفر، وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي). وينبغي أن تقوم المعايير الوطنية وعمليات الشراء العامة بإدماج هذه المتطلبات في المواصفات الفنية للمتعاقدين. إضافة إلى ذلك، يمكن إطلاق برنامج على الصعيد الوطني لبناء ملاجئ كخطة طوارئ للمجتمعات النازحة بسبب كوارث وطنية. ويتم إعطاء الأولوية فيما يتعلق بالوظائف التي تتم إتاحتها في هذا المجال للمجتمعات المتضررة.

ستزداد آثار تغير المناخ بمرور الوقت. ومع ذلك، ثمة بارقة أمل، فلاتزال الفرصة موجودة للتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون وقادر على التكيف مع المناخ بينما نقوم بتحديد سمات "الوضع العادي الجديد" بعد أزمة كوفيد – 19. ويزعم المشككون أن هذا سيؤخر خططنا، ويبطئ نمونا الاقتصادي، ويثقل كاهل البلاد باستثمارات غير ضرورية. غير أن كوارث الماضي و"الحاضر" تثبت بالتأكيد أن تكلفة وعواقب "التقاعس" ستتضاعف.

^[i] ثمة نقص في القياسات والبيانات المتعلقة بهذا الموضوع. وما يلي تصور لأثر ارتفاع مستوى البحر بمعدل 0.5 متر ومتر واحد: http://www.inforse.org/europe/dieret/Climate/climate%20graphics/34a.htm

^ii] يعد التأمين القائم على المؤشرات أداة جديدة يمكن للمزارعين استخدامها لمساعدتهم على إدارة المخاطر. حيث يتم دفعه بناء على مؤشر، مثل هطول الأمطار، التي يتم قياسها لدى محطة الأحوال الجوية المحلية أو عبر الأقمار الصناعية، عوضا عن الاستناد إلى ما أنتجه طقس سيء، مثل غلة محاصيل المزارع. وبخلاف التأمين التقليدي على المحاصيل، لا تحتاج شركة التأمين إلى زيارة حقل المزارع لتحديد الأقساط أو تقييم الأضرار. على سبيل المثال، إذا كان هطول الأمطار أدنى من العتبة المحددة، عندها يقوم التأمين بالدفع.

المراجع

Read Also