لطالما كان التحرش الجنسي ضد المرأة أحد الأدوات الخفية التي تستخدمها الأنظمة التي تتحكم في المرأة في الحياة الخاصة والعامة. غير أن المرأة التي صمتت في الماضي، بدأت تكافح اليوم من أجل استرجاع زمام السيطرة. والأهم هو أن هذه المقاومة تمكنت من إسقاط بعض من أقوى الرجال في العالم، مما أعطى الأمل والإصرار والشجاعة للنساء في جميع الدول.

شهدت السنوات العشر الأخيرة ظهور أجيال جديدة من الشابات في مصر، على قدر أكبر من الجرأة مقارنةً بأمهاتهن وجداتهن، إن كان من ناحية ترتيب أولويات نضالهن أو من ناحية نظرتهن إلى أنفسهن. وخلال ثورة 2011، واجهت هؤلاء النساء، اللاتي كانت العديد منهن بلا أي توجهات سياسية، التحرش الجنسي الذي كان يمارس ضدهن في الأماكن العامة لإسكاتهن وتخويفهن. واليوم، نشهد مرحلة جديدة في هذه المواجهة؛ حركة لفضح التحرش الجنسي الذي تتم ممارسته داخل المؤسسات والاعتراض عليه.

لقد قامت هؤلاء الشابات، اللاتي لا يتمتعن بالدعم المؤسسي في معظم الأحيان، بالتغلب على عقبة كبيرة للغاية، وهي إسكاتهن عن طريق التشهير، الأمر الذي دفع النساء إلى التزام الصمت لزمن طويل. ويتكرر التشهير والإذلال ضد أولئك اللاتي عارضن التحرش والاعتداء الجنسيين، ولا يزالا ضمن التحديات العديدة الموجودة. وتعتبر الأسر والمجتمعات المحلية من ضمن ممارسي الاضطهاد الرئيسيين على هذا الصعيد، في حين أدى انعدام التشريعات والدعم المؤسسي والدعم العام إلى عرقلة قوى التغيير.

وفي حين أن، بشكل عام، التغيير يحدث على مر الزمن وبشكل تصاعدي، فإن ما يحدث في الوقت الحالي يمثل، وبدون شك، خطوة هامة إلى الأمام، وإن كان لا يزال هناك العديد من التحديات، بما فيها القدرة على التنظيم ووضوح الغاية ومواجهة أشكال التحيز المجتمعي المتجذرة والتأثير في نهاية المطاف على القوانين والسياسات. وبالتالي، فإن نجاح هذه الحركة في إحداث تغيير واسع النطاق يعتمد على معالجة هذه التحديات ومواجهة رد الفعل العنيف الذي سيحاول إسكات الحركة بمجرد انتشارها خارج نطاق قوقعتها النسبية المتمثلة في المؤسسات غير الحكومية والمجموعات المستقلة.

مكافحة التحرش والاعتداء الجنسيين: عهد جديد

قامت هذه الموجة الجديدة من الأنشطة باستخدام أساليب حديثة من وسائل الاتصال الجماهيري والأدوات المتنوعة لوسائل التواصل الاجتماعي. حيث أخذت الشابات، المسيسات واللاتي ليس لديهن أي انتماء سياسي على حد سواء، زمام المبادرة من خلال التركيز بشكل حصري على التحرش والاعتداء الجنسيين.

وعلى الرغم من اضمحلال النشاط السياسي بشكل عام، شهدت حركة #أنا_أيضًا (#MeToo) عودة النشاط على فيسبوك. حيث تم تجميع ونشر قوائم بأسماء متحرشين مزعومين، وتتضمن أسماء عدد من شخصيات المعارضة. وتم تشكيل لجان مستقلة مكونة بشكل رئيسي من أفراد يحددهم موجهو الاتهام. ولقد كان الأثر إيجابيًا في الكثير من النواحي، حيث إنه سلط الضوء على التحرش وسعى إلى مساءلة الأشخاص، بغض النظر عن موقعهم في الساحة السياسية. غير أنه أثار نقاشًا لم يحسم بعد بشأن ما يصنف بالفعل تحرشًا جنسيًا ومصداقية لجان التحقيق المستقلة.

وواجه عدد من الشخصيات السياسية المعارضة المعروفة اتهامات من شابات كن على معرفة بالمعتدين عليهن. وعادةً ما كان يتم تصديق الناجيات من الاعتداء، اللاتي قدمن رواياتهن بشكل سري أو من خلال وسطاء أو بشكل مباشر، مما وضع المسؤولية على كاهل المتهم بالتحرش لإثبات براءته، ما أدى بالتالي إلى تقويض مبدأ أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. ويجادل المدافعون عن هذا النهج أن فداحة التحرش الجنسي الممارس ضد المرأة يبرر هذا الاستثناء، خاصة في ضوء السياق العسير للنضال من أجل حقوق المرأة. إضافة إلى هذا، لم تكن جميع النساء راغبات في التقدم ببلاغات، حيث قام أصدقاء لهن بنشر مناقشاتهن على مواقع الانترنت دون تحقق. وقد تسبب هذا في المزيد من التعقيدات في بيئة مليئة بالتحديات بطبيعة الحال، فضلًا عن فتح الباب أمام اغتيال الشخصيات. وشكل عدم وجود تنسيق من جانب لجان التحقيق غير الرسمية وعدم وجود اتفاق بشأن معايير واضحة لتوجيهها إشكالية مشابهة.

غير أن هذه الحركة بدأت في إيجاد بيئة أكثر استنارة ضمن المنظمات غير الحكومية فيما يتعلق بالواقع الذي تعيشه الزميلات والصديقات. كما أنها شجعت الجهات المختلفة، وعلى وجه الخصوص الجهات غير الحكومية، على تنظيم جهودها، ونشر معايير واضحة، وتحسين آليات وقواعد التحقيق للحفاظ على مصداقياتها. ولقد دفعت إلحاحية القضية عدد من المنظمات غير الحكومية إلى صياغة ورقات مواقف وسياسات بشأن التحرش الجنسي، ومن ضمنها المعايير والآليات اللازمة وما إلى ذلك. (مقابلة).

الخروج من قوقعة الهيئات غير الحكومية

وفي مصر، بدأ النشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي لحوادث تشمل نساء تم التعرض لهن في مواقع مختلفة وطلبن الحماية من أفراد الأمن أو الجمهور. وجاء الرد بشكل عام أنه ينبغي تركهن لوحدهن. ويعكس التشهير بالنساء على فيسبوك إما حملة منظمة لإسكات النساء أو مجتمعاً يرفض إلى غاية الآن التعامل مع هذه القضية إلا من خلال لوم الضحية.

ومع ذلك، بدأت تتشكل مجموعات بين هؤلاء الشابات، خاصة في أوساط شابات من الطبقة العليا، اللاتي حاولن توثيق الجرائم الخطيرة والتحقيق فيها ونشرها. ومن ضمن هذه المجموعات حساب معروف على إنستغرام باسم "Assault Police"،^[i] وهو الحساب الذي نشر قضية طالب جامعي يزعم أنه اعتدى على أكثر من 100 امرأة وتحرش بهن، وذلك وفقاً لأقوالهن. وفي نهاية المطاف تم إلقاء القبض عليه، فيما تم توجيه الاتهام إليه مؤخراً.

وقامت نفس المجموعة أيضاً بنشر قضية الفيرمونت التي يزعم فيها أن عدداً من الشباب قاموا بتخدير شابة واغتصابها بشكل جماعي. ورحب حساب "Assault Police"، الذي من المتصور أنه يُدار بواسطة شابات ينتمين إلى الطبقة المتوسطة والطبقة العليا، بالإعلان الصادر عن المجلس القومي للمرأة الذي شجع مديرات الحساب بالتقدم ببلاغات من خلال استخدام خط ساخن ووعد بأنهن سيحصلن على العدالة. وأفاد الإعلان أن المجلس القومي للمرأة سوف يحمي الشهود في حال تقدموا. وفي نفس الوقت وافق البرلمان على قانون لحماية خصوصية النساء اللاتي يتقدمن بشكاوى عن الاعتداء (Farouk, 2020). وكان يبدو أن السلطات قد تدخلت من أجل المساعدة.

غير أن الجناة المزعومين فروا من البلاد باستثناء واحد منهم. وأصبح العديد من الشهود متهمين وتم حبسهم ووجهت إليهم تهمة الفجور والمشاركة في حفل جنس جماعي، كما تم شن حملة تشهير ضدهم باستخدام صور ومقاطع فيديو شخصية تم تسريبها من هواتفهم المًصادرة. وكان هذا التغير شديداً على أقل تقدير (مدى مصر، 2020).

وخلص مراقبون موضوعيون إلى استنتاج عقلاني على فيسبوك ومواقع الصحافة المستقلة وهو أن الشباب المتهمين ينتمون إلى عائلات ذات نفوذ، ولا تزال هناك العديد من التساؤلات التي تبحث عن إجابة وهي تتعلق بكيفية تأثير ذلك على التحقيق ودرجة النفوذ التي يتمتعون بها. غير إن هذا يشير إلى أن النوع الاجتماعي ليس المتغير الوحيد في قضايا التحرش والاعتداء الجنسيين. حيث تلعب الطبقة الاجتماعية والنفوذ الاقتصادية دورًا أيضًا.

ومن المرجح أن يؤدي الأثر الذي خلفته هذه القضية على الشابات وأسرهن إلى ثني أي أحد عن التقدم ببلاغات في المستقبل. ويشكل هذا تحديًا كبيرًا وعقبة رئيسية أمام مساءلة الرجال النافذين عن الجرائم الخطيرة التي ارتكبوها ضد نساء أقل نفوذًا. كما أنها تلحق ضررًا كبيرًا بنظامنا القضائي وكذلك بالهيئات الحكومية وشبه الحكومية التي لا تقتصر مهامها على حماية النساء اللاتي تعرضن لسوء المعاملة فحسب، حيث إنها تشمل أيضًا حماية الشهود على هذه الجرائم. وأخيرًا، وكما يتضح من القضية، فإن العادات الاجتماعية الضارة التي تعمل من أجل الحفاظ على الوضع القائم تحول دون تقدم مجتمعنا إلى ما هو أبعد من الصمت الذي لطالما أبقى هذا المجتمع خاضعًا.

التحديات المتأصلة والمضي قدمًا

في غياب مؤسسات عامة وقانونية تراعي الاعتبارات الجنسانية، ينبغي أن توجد هيئة و/أو آلية تكون حقاً مستقلة ومنظمة وذات مصداقية ويكون بإمكان الناجين من الاعتداء التواصل معها وتتمتع بسلطة مساءلة الأفراد.

وعلى الصعيد الداخلي، يجب أن يكون لهذه المجموعة معايير واضحة ومتفق عليها بشكل جماعي بشأن تعريف التحرش الجنسي (بما في ذلك تكوين فهم واضح لمفهوم الرضا)، إضافة إلى مدونات وقواعد للتحقيق. وينبغي التوصل إلى هذا بشكل منفتح وتشاركي. وفي حال عدم وجود اختصاصات واضحة وشفافية، ستكون هذه اللجنة عرضة للتلاعب مثل المنظمات غير الحكومية الأخرى حيث إنه من المثير للشك أن تشكل شخصيات من المعارضة السياسية أغلبية المتهمين. وتعتبر حادثة الفيرمونت مثالاً على ذلك.

وعلى الصعيد الخارجي، يجب أن تكون هذه الهيئة قادرة على التنسيق مع الهيئات الوطنية من خلال قنوات مختلفة. ويجب أن تكون قادرة على ربط الناجين بمكتب المدعي العام وتيسير سبل الانتصاف القانونية عند الطلب. كما أنها ستكون بحاجة إلى خطوط ساخنة تراعي الاعتبارات الجنسانية، ويجب أن يتم تعميم هذه الأرقام على نطاق واسع. وبما أن هذه اللجنة لن تتمتع بوضع قانوني، فإنها لن تستطيع إعطاء وعود واهية لئلا تفقد مصداقيتها؛ ويجب أن تنص ولايتها على التحقق من الاتهامات ودعم الناجين/الضحايا.

وتوجد حاجة إلى توافق واسع النطاق من أجل تنسيق وحماية هيئة يكون بمقدورها العمل بمثابة محكمة شعبية معنية بالتحرش الجنسي. ويتطلب هذا الأمر تنسيقاً جاداً بين العديد من الهيئات غير الحكومية، التي يجب أن تضع خلافاتها جانباً من أجل تشكيل جبهة موحدة ضد التحرش الجنسي.

ودون التقليل من شأن الجهود التاريخية التي قدمتها المنظمات النسوية، فإنه من الأهمية بمكان التأكيد مرة أخرى على وجود جهات متعددة ومتنوعة في هذا المجال، بحيث لا تكون مرتبطة بالضرورة بنفس الأساليب أو الخلفية السياسية أو قيود الأجيال الأكبر سناً. فلا يزال أثر هذه الأمور يتكشف.

ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان سيتم إسكات هذه الحركة من خلال الإكراه، خاصة وإنها بدأت تقترب كثيراً من أشخاص في السلطة. ومع ذلك، أظهر التاريخ أنه وبينما قد يكون بالإمكان إسكات الأفراد، فإن قمع الحركة وذاكرتها الجماعية هو أمر أصعب. على الأقل لطالما كان هذا هو الأمل.

[i] تم إنشاء حسابين آخرين بالإضافة إلى "Assault Police” وهما: "Catcalls of Cairo" و"Gang Rapists of Cairo" (مدى مصر، 2020).

المراجع

Farouk, Menna A. (2020, August 16). Egypt approves law to protect identities of women reporting sex abuse. Reuters.
Mada Masr. (2020, August 29). Security forces detain witnesses in Fairmont rape case.

Read Also