- ١١ سبتمبر، ٢٠١٩
باحثة أولى في مشروع حلول للسياسات البديلة. تشمل اهتماماتها البحثية السياسة المالية والاقتصاد القياسي. حاصلة على درجة الماجستير من الجامعة الألمانية بالقاهرة في مجال الإدارة. عملت كمدرس مساعد في الجامعة الألمانية للعديد من المقررات التعليمية الخاصة بالاقتصاد.
في هذا المقال تواصل هبة قرشي النقاش الذي بدأته بمقالها السابق نظام المعاشات الاجتماعية في مصر: دعوة للإصلاح
التقدم في السن أمر "لا مفر منه يرافقه العديد من التحديات الناجمة عن زيادة أخطار التعرض للأمراض المزمنة والإعاقات البدنية وكذلك الفقر المرتبط بالتوقف عن العمل. في هذا الصدد، تُعد سياسات الحماية الاجتماعية أداة محورية في تحقيق العدالة الاجتماعية والضمان الاجتماعي ليس لفئة كبار السن فقط ولكن للفئات كافة. تحقيق الحماية الاجتماعية الشاملة هو هدف من أهداف التنمية المستدامة (Sustainable Development Goals)، فالهدف الأول (1.3) ينص على تنفيذ أنظمة حماية اجتماعية متاحة للجميع، بما في ذلك ضمان حد أدنى من الحماية الاجتماعية، وتحقيق تقدم ملموس في تغطية الفقراء والفئات المهمشة بحلول عام 2030 (IlO , 2017). يعد هذا بمثابة تأكيد للتوصية السابقة رقم 202 الصادرة عن منظمة العمل الدولية في 2012 والتي تدعو إلى توفير حد أدنى من الحماية الاجتماعية لجميع الأفراد (IlO , 2017). إن الاتفاق على مثل هذا الحد الأدنى للحماية الاجتماعية له أهمية خاصة للمسنين الساعين لتأمين مصدر دخل ما بعد التقاعد والتوقف عن العمل.
وفقًا لدراسة صادرة عن منظمة العمل الدولية عام 2017، فإن حوالي 20٪ فقط من كبار السن يتلقون معاشات تقاعدية في معظم البلدان ذات الدخل المنخفض ،ما يجعل الأغلبية العظمى من كبار السن أكثر عرضة لأمراض الشيخوخة والفقر نظراً لانقطاع دخل العمل (Ortiz, Duran-Valverde, Pal, Behrendt & Acuna-Ulate, 2017). وبينما يظهر ذلك وجود حاجة ملحة إلى إدخال إصلاحات كبيرة على أنظمة المعاشات تلك لتوسيع تغطيتها، فإن المعاشات غير القائمة على الاشتراكات يمكن لها أن تساعد في سد فجوات التغطية التي لا يستطيع نظام الاشتراكات معالجتها (Willmore, 2007).
تنقسم الأنظمة غير القائمة على دفع الاشتراكات إلى أنظمة شاملة ومستهدِفة (أي موجهة). تقدم المعاشات الشاملة -كما هو واضح من اسمها- تحويلات نقدية لكبار السن كافةً، بغض النظر عن الوضع الوظيفي أو الدخل أو النوع. الشرطان الوحيدان لاستحقاقها عادة هما السن ومحل الإقامة. على النحو الآخر، فإن المعاشات المستهدفة هي تلك التي يتم توفيرها لمجموعات بعينها عادة ما تكون ذات خصائص دخل محددة. هنا يأتي السؤال الذي أثار العديد من المناقشات: هل يستحسن تقديم خطط حماية تشمل الجميع باختلاف مستويات دخولهم أم أن الأفضل توجيه تلك الموارد للفقراء فقط أو لفئات بعينها؟ على مستوى التطبيق فإن كلا النهجين موجودان وتم استخدامهما من قبَل العديد من الدول، فبحلول عام 2014 كانت 36 دولة تقدم خطط المعاشات الشاملة، منها الأرجنتين وبوليفيا والصين وكينيا وزنجبار وغيره، في مقابل 53 دولة تعتمد الخطط القائمة على الاستهداف (Kidd, 2016؛ ILO, 2017).
ولأن النظم الشاملة تقدم معاشًا ثابتًا لجميع من بلغوا سنًا معينة ولا تتطلب وجود دخل أو شرط معين، فإنها تساهم في تحقيق تغطية أوسع، خصوصًا للنساء والعاملين في القطاع غير الرسمي (Willmore, 2007)، ومن هنا فإنها تتفادى فجوات التغطية التي تنتج عادة عن النظم المستهدفة. ورغم كون النظم الشاملة أسهل وأبسط في طريقة إدارتها، فإنها من الناحية المالية تعد الأصعب في تمويلها.
عند الاختيار بين المعاشات الشاملة أو نظيرتها المستهدفة يظهر بوضوح أنها المسألة هي قرار منح الأولوية لمعالجة الفقر مقابل معالجة مسألة عدم المساواة. فالنظم المستهدفة تعد أكثر ملاءمة لتلبية احتياجات مجموعات محددة و بالتالي تكون أكثر فعالية في القضاء على الفقر داخل تلك المجموعات، في حين أن المخططات الشاملة بحكم تعريفها تعزز المساواة و الشمول بين جميع القطاعات الاجتماعية عن طريق تجنب التحيز والتمييز وفساد الإدارة، وهي الظواهر الأكثر شيوعاً في الأنظمة المستهدفة. كما تستلزم المعاشات الشاملة بالتالي تكاليف إدارية أقل بطبيعتها، حيث إنها تستهدف عموم السكان المسنين. ففي دراسة على عينة من 57 دولة نامية بلغ متوسط التكاليف الإدارية لنظام المعاشات التقاعدية الشاملة 3 ٪ من إجمالي النفقات، مقارنة بمتوسط 12 ٪ في نظم المعاشات المستهدفة في (2017. Ortiz et al).
يجادل أنصار المعاشات الشاملة بأنها تتفادى بالمكامل أخطاء استبعاد المحتاجين لها؛ لأنها تستهدف الفقراء إلى جانب غير الفقراء على السواء. يؤدي هذا المعيار البسيط إلى معدلات تغطية أعلى يمكن ملاحظتها مقارنة بتلك التي تحققها الأنظمة المستهدفة. على الجانب الآخر فإن المخططات المستهدفة لا تحقق أبدًا التغطية الكاملة لجميع المستفيدين المستهدفين، ودائمًا ما يلاحقها انتقاد التغطية المحدودة للفقراء. على سبيل المثال ، كما طرح (Kidd, 2016) تستبعد برامج Bolsa Familia البرازيلية وOportunidades في المكسيك 49٪ و 70٪ من المستفيدين المستهدفين، على التوالي. هذه الأرقام في الواقع مثيرة للقلق وتستدعي إعادة نظر طارئة في آليات الاستهداف.
من ناحية الآثار الاقتصادية لكليهما فإن الأدلة تظهر نتائج متباينة. فقد انخفضت احتمالية التعرض للفقر عند تطبيق نظام المعاشات الشاملة في ناميبيا، وإن كان لها تأثير ضئيل على عدم المساواة (Jouste & Rattenhuber , 2018 ). من ناحية أخرى، كانت البرامج المستهدفة أكثر فعالية في البلدان التي لا ينتمي غالبية المسنين فيها للفقراء (Grosh & Leite, 2014). ومع ذلك فقد أكدت دراسات عديدة أن برامج الاستهداف، كما تعمل حاليًا في عينة من بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا، يشوبها ارتكاب أخطاء استبعاد كبيرة تقلل من تأثيرها المرجو على محاربة الفقر (Brown, Ravillion & de Walle, 2018؛ & Detheir, Pestieau & Ali, 2010).
أما على الناحية السياسية فإن أنظمة المعاشات الشاملة تحظى بقبول سياسي ومجتمعي ملحوظين، حيث تدخل الطبقات الأغنى والأقوى من بين قوائم المستفيدين (HelpAge, 2006)، وبالتالي تبني المعاشات الشاملة تحالفاً سياسياً عابرًا لمختلف الطبقات الاقتصادية (Kidd, 2016 ) عبر استفادة كل من الضعفاء سياسياً (الفقراء) والمؤثرين سياسياً (الأغنياء) من هذه المعاشات. بمعنى آخر، يتوقف الفقراء عن القتال وحدهم من أجل حقوقهم الاقتصادية ، لكنهم يستفيدون من التأثير السياسي للقطاعات الأكثر قوة (Kidd, 2016). أما في ظل الخطط المستهدفة فقد قد يكون هذا الدعم السياسي غائبًا، مما يؤدي في النهاية إلى تحويلات نقدية منخفضة القيمة. كما تتعرض الخطط المستهدفة لاتهامات بالفساد وتعقيد الإجراءات البيروقراطية وغياب الشفافية في وضع معايير القبول.
عادة تتطلب المعاشات الشاملة تمويلًا أكبر. لكن غياب الإجراءات الإدارية المعقدة -كالموجودة في المعاشات المستهدفة- يعوض عن تكاليفها المرتفعة (Willmore, 2007). محددات التكلفة الرئيسية للمعاشات الشاملة هي قيمة المعاش وسن الاستحقاق. أجريت في مصر محاكاة لتكاليف المعاش الشامل أظهرت أنه سيكلف 0.9٪ من الناتج المحلي الإجمالي تم حسابها على أساس سن الاستحقاق البالغ 65 عامًا وقيمة للمعاش تصل 100٪ من خط الفقر. يقترب هذا الرقم من نصف المعدل الذي تم رصده في العينة الكاملة المكونة من 57 دولة منخفضة الدخل (Ortiz et al., 2017). تم طرح عدد من بدائل التمويل وتشمل فرض ضرائب على المعاملات المالية أو إعادة تخصيص الإنفاق العام لصالح الحماية الاجتماعية (Cruz Martinez, 2016). لكن حالة الموازنة في مصر حاليًا تظهر اهتمامًا منخفضًا بدعم الإنفاق الاجتماعي، كما يتضح من حصص الإنفاق على الصحة والتعليم ( Ortiz et al., 2017).
إحدى طرق التعامل مع الاحتياج التمويلي الكبير لنظام المعاشات الشاملة هو تطبيقه بشكل مرحلي، مثل تعيين سن الاستحقاق أعلى من سن التقاعد (على سبيل المثال 65+) ثم تخفيضه تدريجياً حتى يصل إلى سن التقاعد الحكومي. أو يمكن البدء بقيمة معاش تقاعدي أولي ثم ويتم رفعه تدريجياً. لكن بصرف النظر عن خيار التمويل فإن توفير معاش شامل يحصل عليه الجميع من شأنه ضمان التأييد السياسي والمجتمعي لمثل هذه المعاشات.
تشمل برامج التقاعد غير القائمة على الاشتراكات في مصر برنامجي تكافل وكرامة بالإضافة إلى معاش الضمان الاجتماعي، وكلها برامج مستهدفة. كان المخطط الشامل الوحيد المقدم هو الدعم، والذي يتم رفعه التدريجي حاليًا في ضوء برنامج الإصلاح الاقتصادي في حالة دعم الطاقة، كما أعيد توجيه الدعم الغذائي المقدم للشعب بأكمله بدءًا من عام 2017 ليصبح مخصصًا للأسر الفقيرة فقط (Machado, Bilo, Soares & Osorio, 2018). يتضح إذن تحول سياسات الدعم الاجتماعي في مصر تدريجيًا من نهج قائم على الشمولية إلى نهج أكثر استهدافاً. ويعد هذا التحول مبررًا خاصة في أعقاب صدور نتائج بحث الدخل والإنفاق مؤخرًا والذي يبرز زيادة معدل الفقر إلى حوالي 32.5٪ (The Economist, 2019). من هنا فإن السياسات المعنية بالتخفيف من مستويات الفقر المتزايدة هي الشاغل الحالي.
لكن مراجعة أداء البرامج المستهدفة في مصر عبر السنوات يظهر أن نجاحها لا يزال محدودًا. فالمخصصات النقدية الشهرية التي يقدمها معاش الضمان الاجتماعي على سبيل المثال لم تحدث تأثيرًا يذكر في الحد من الفقر (Sieverding & Selwaness, 2012). وتستهدف هذه المعاشات الأسر التي ليس لها عائل من الذكور والأفراد الذين لا يتقاضون أي معاشات. كما أشارت تقديرات البنك الدولي في عام 2006 إلى أن غالبية المعاشات الاجتماعية (70٪) ذهبت إلى غير الفقراء، في حين أن نسبة الفقراء المستفيدين من هذه المعاشات كانت أقل من 12٪ (World Bank, 2007). وفي الواقع فإن الزيادة المقلقة في معدلات الفقر الواردة في مسح البحث والإنفاق تشير بوضوح إلى أن المستفيدين المستهدفين من برامج المعاشات التقاعدية لا تتم تغطيتهم أو حمايتهم بشكل كافٍ. بالإضافة إلى ذلك، في معظم البلدان النامية يُعتبرالمواطنون من الطبقة الوسطى عرضةً لزيادات الأسعار الناجمة عن إلغاء الدعم، ما يعني أنه حتى لو تم توفير شبكات أمان تستهدف الفقراء فإنها لن تعالج الأثر السلبي الواقع على الفئات الأخرى.
يمكن تطبيق منظومة معاشات شاملة في مصر وبحيث تكون هذه السياسة ضمن استراتيجية طويلة الأجل تعالج بشكل أساسي مشكلة عدم المساواة في الدخل. قد يكون أيضا من المفيد دراسة تطبيق كل من البرامج الشاملة والمستهدفة كخيارات متكاملة بدلاً من خيارات متعارضة. في دولة الإكوادور مثلا تمكنت البلاد من تقديم معاشات تقاعدية شاملة مكملة للمبالغ المنخفضة للمخططات المستهدفة، بحيث حصل أولئك المحرومون بالكامل من أي معاش تقاعدي على مبلغ المعاش الشامل كاملًا، بينما يحصل المستفيدون من معاشات التقاعد المستهدفة على مبلغ أقل. نجح هذا البرنامج في الوصول إلى كبار السن، مع تحقيق انخفاض ملحوظ في الفقر وعدم المساواة (Jouste & Rattenhuber , 2018)، ويعد نموذجًا فعالًا لإنشاء برنامج "هجين" يجني فوائد سياستين منفصلتين.
على نفس المنوال السابق هنالك التجربة البوليفية حيث تخصص الحكومة قيمتين للمعاشات التقاعدية، قيمة لأولئك الذين لا يتلقون معاشات تقاعدية على الإطلاق و قيمة أقل لمن يتلقون معاشات تقاعدية. بديهياً تحصل المجموعة الأولى على مبلغ أعلى من الأخيرة من أجل تعويض غياب دخل ثابت.و تجدر الإشارة إلى أنه نتيجة لاتباع هذه السياسة فإن معدلات التغطية في بوليفيا أصبحت الأعلى في أمريكا اللاتينية (Jouste & Rattenhuber , 2018). يبرز المثالان السابقان أن الجمع بين سياستين -قد تبدوان متعارضتين للوهلة الأولى- يمكن أن يكون خياراً فعالًا وناجحًا. وغني عن القول أن سياسات الحماية الاجتماعية تحتاج إلى صياغة دقيقة لتناسب ظروف البلد. وأخيرًا وبالنسبة إلى حالة مصر، فإن منظمة العمل الدولية تشير إلى أن الطريق ستكون طويلة حتى تحقيق التغطية الشاملة للحماية الاجتماعية (ILO, 2017).
المراجع
الآراء ووجهات النظر المقدمة من الكتاب خاصة بهم ولا تعكس آراء ومواقف الجامعة الأمريكية بالقاهرة أو مشروع حلول للسياسات البديلة