تعيش أكثر شعوب العالم فقرًا في الدول النامية بكل من أفريقيا جنوب الصحراء، وجنوب آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا[i]، وذلك وفقًا لمؤشر الأمم المتحدة للفقر متعدد الأبعاد لعام 2019. لكن "نظرية المقدرة" capability approach شديدة الأهمية التي طرحها الاقتصادي الهندي أمارتيا سِن في عام 1985- كإطار نظري لقياس الفقر- أعادت صياغة مفهوم "الفقر" وكيفية تصنيف الناس كـ"فقراء".

وفي إطار تلك النظرية نادى سِن بقوة بالتركيز على عدد من "الوظائف" الهامة وما تتطلبه من قدرات لدى الأفراد، كالحصول على الغذاء الكافي، والمسكن، والحالة الصحية الجيدة، وتجنب الأمراض المميتة أو الموت المبكر، وحرية الحركة؛ وذلك بدلًا من التركيز فقط على مستويات الدخل والاستهلاك.

الفقر متعدد الأبعاد

"لا يتوقف الفقر في النهاية على مستوى الدخل على الإطلاق، بل يتعلق بعدم القدرة على تحقيق حد أدنى من عدد من القدرات الأساسية"

أمارتيا سِن (1985)

أرست نظرية سِن المُجَدِدة 1985 (1985) مفهومًا جديدًا للفقر، قائمًا على عدة أبعاد لا تتوقف فقط عند نقص الممتلكات المادية، ولكنها تأخذ في الحسبان قلة الفرص الضرورية المتاحة من أجل حياة كريمة (Anand and Sen, 1997). ومن هذا المنطلق، بدأت الدراسات الأحدث في النظر إلى التعليم والصحة كمؤشرات لقياس الفقر (Anand and Sen, 1997)، بالإضافة إلى اعتبار عوامل أخرى أبعادًا محورية للفقر، مثل العمل، والسلامة الجسدية، والحرية، والتمكين، والتواصل الاجتماعي، والسلامة النفسية (Alkire, 2007; Samuel et. al, 2017).

وبالرغم من عدم تواجد أغلبية هذه العوامل في مؤشرات قياس الفقر متعدد الأبعاد بسبب غياب البيانات (Alkire, 2007)، فإن تلك المؤشرات على الأقل تتضمن قياس بعض الاحتياجات الإنسانية الأساسية بدلًا من الاعتماد الكلي على القياس النقدي money-metric. فعلى سبيل المثال، يقوم مؤشر الأمم المتحدة العالمي للفقر متعدد الأبعاد (MPI) على ثلاثة أبعاد أساسية هي التعليم والصحة ومستوى المعيشة، ويتم قياسها وفقًا لعشرة مؤشرات. تتمثل الصحة في مؤشرات التغذية ووفيات الأطفال، ويتمثل التعليم في عدد سنوات التعلّم وانتظام الحضور المدرسي، بينما تشمل مؤشرات مستوى المعيشة كلًا من الممتلكات، والسكن، والكهرباء، والصحة العامة، ومياه الشرب ووقود الطهي.

يضم مؤشر الأمم المتحدة العالمي للفقر متعدد الأبعاد لعام 2019 بيانات عن 101 دولة يقطن بها 76% من سكان العالم. وتشير تلك البيانات إلى أن ثلث سكان العالم يعانون من الفقر متعدد الأبعاد. ويعيش الأكثر فقرًا منهم في 49 دولة.

وتتفاوت مستويات الفقر متعدد الأبعاد بين إحدى تلك الدول النامية والأخرى؛ حيث يعيش 1.1% من الفقراء في دول أوروبا وآسيا الوسطى، بينما يتركز 57.5% في جنوب صحراء أفريقيا، وتليها دول جنوب آسيا والدول العربية بـ 31% و15.7% على الترتيب.

الأبعاد الأساسية لقياس الفقر والتوصيات المتعلقة بها

التعليم

بالرغم من تحقيق دول منطقة الشرق الأوسط تقدمًا ملحوظًا في نسب الالتحاق بالمدارس، فإن هذا الإنجاز لم يعكس ارتفاعًا في مستوى جودة حياة الأفراد. ووفقًا لتقرير البنك الدولي الصادر بعنوان "توقعات وتطلعات: إطار جديد للتعليم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، لم ينتج عن التحسن في نسب الالتحاق بالتعليم والانتساب للمدارس ارتفاع في فرص سوق العمل أمام الشباب، وبالتالي أصبحت المنطقة تضم أكبر نسبة في العالم من العاطلين عن العمل من الشباب (World Bank, 2018). وأوصى التقرير بأن يركّز النظام التعليمي على نتائج التعلّم لدى الأطفال في مراحل التعليم الأولى.

وهكذا يصبح من الضروري رفع الكفاءة التربوية للمعلمين ومدراء المدارس من أجل تقييم أكثر دقة لعملية التعلّم لدى الأطفال. كما يجب أن تعتمد الحكومات سياسات عادلة تهدف لتوفير التعليم لكافة الأطفال بدون النظر إلى النوع الاجتماعي أو العرق أو الخلفية الاقتصادية أو القدرة البدنية. وكذلك هناك حاجة للقيام بإصلاحات في السياسات العامة كمعايير اختيار المعلّمين، وإصلاحات في سوق العمل لخلق توافق أكبر بين قدرات الخريجين واحتياجات السوق، وتحفيز أصحاب الأعمال على مساعدة الخريجين الجدد على اكتساب المهارات المطلوبة.

الصحة

الأمن الغذائي والتغذية السليمة من التحديات الجادة التي تواجه معظم دول الشرق الأوسط باستثناء دول منظمة التعاون الخليجي التي يصنفها معهد أبحاث سياسات الغذاء بوصفها دولًا آمنة من المخاطر. وبما أن التغذية ووفيات الأطفال هي مؤشرات مستخدمة في قياس البعد المتعلق بالصحة، فإن السياسات العامة في الدول النامية بالشرق الأوسط يجب أن تركز على العادات الغذائية وتوافر الرعاية الصحية المطلوبة (Marks, 2009). وعلاوة على ذلك، يرى كوتش (2017) أن سوء إدارة الموارد المائية - بما يؤدي على سبيل المثال لإهدار مياه الري- من شأنه التأثير سلبًا على الأمن الغذائي في المنطقة. ومن الحلول المطروحة كسياسات بديلة لوسائل الحماية الاجتماعية القائمة (كالدعم النقدي، ودعم الوقود والغذاء) تحسين قدرات المزارعين على الاستخدام الكفء لعوامل الإنتاج لتحقيق الإنتاج الغذائي المناسب.

وحققت بلدان الشرق الأوسط تقدمًا ملحوظًا فيما يخص تقليل معدلات وفيات الأمهات ووفيات الأطفال تحت سن الخامسة. إلا أن هذا التقدم لا يزال غير متكافئ إذا ما تمت المقارنة بين المناطق المختلفة داخل الدولة الواحدة أو بين الدول وبعضها. كما لم يحرز الأطفال في المناطق الجغرافية المختلفة تقدمًا متساويًا. فبالمقارنة بالدول منخفضة ومتوسطة الدخل، لدى الدول عالية الدخل قدرات أعلى على تغطية احتياجات من قبيل الرعاية الصحية في المدارس، والرعاية الماهرة للأمهات أثناء الولادة، والتطعيمات. كما يؤدي عدم الاستقرار السياسي لعدم حصول الكثير من الأطفال على الرعاية الصحية الكافية. فالبلدان التي تشهد حروبًا، مثل سوريا واليمن، لديها مستويات منخفضة جداً من التطعيم ضد الأمراض، على عكس دول أخرى بالشرق الأوسط لديها مستويات عالية من التطعيم. ولذا أصدرت منظمة الصحة العالمية في 2014 ما أسمته "خطة العمل المعنية بكل طفل حديث الولادة"، كاستراتيجية فعّالة من حيث التكلفة وقائمة على الأدلة لإنهاء وفيات الأطفال ومرض ووفيات الأمهات الحوامل، ولكن يظل على الحكومات وضع سياسات عامة تضمن المساواة في القدرة على تحمل تكاليف وجودة وإتاحة خدمات الرعاية الصحية (UNICEF, 2019).

جودة الحياة والحماية الاجتماعية

يعيش ثلثا سكان الشرق الأوسط بلا أي نوع من الضمان الاجتماعي الرسمي. وعادةً ما تقوم السياسات العامة في المنطقة على شبكات الحماية الاجتماعية مثل الدعم، وبرامج المدفوعات النقدية وبعض الأشكال الأخرى من الدعم الاجتماعي. وبالنظر للدعم النقدي كمثال، فإن شبكات الأمان الاجتماعي ليست بالضرورة استراتيجية فعّالة لمكافحة الفقر، باستثناء استهدافها على المدى القصير والمتوسط لمن يعانون من الفقر المدقع (Ozdamar and Giovanis 2016; 2017).

فإتاحة وسائل مواصلات مناسبة للجميع (مثلًا، توفير أماكن مخصصة للكراسي المتحركة بالحافلات ومترو الأنفاق) يمكن أن تكون أكثر فاعلية من الدعم النقدي لذوي الإعاقة. في أفغانستان، على سبيل المثال، الكراسي المتحركة غير متوفرة بشكل عام إلا في المدن الكبيرة، وشبكات المواصلات العامة والطرق المرصوفة تكاد تكون منعدمة. وهكذا فإن وجود مثل تلك الخدمات العامة يسهم في إتاحة فرص توظيف أكثر مرونة تناسب القدرات المتفاوتة للأفراد، وتساعد على تحسينها، على عكس شبكات الأمان الاجتماعي الموجهة.

برامج الدعم الاجتماعي غير القائمة على الاشتراكات تستهدف كذلك الشرائح الأضعف مثل اليتامى والنساء الأرامل والمطلقات وكبار السن. وعادةً ما تقدم هذه البرامج دعمًا نقديًا أو عينيًا؛ مثل برامج التغذية في المدارس أو برامج الإسكان الاجتماعي، أو التأمين الصحي غير القائم على الاشتراك، والرعاية الصحية ودعم الغذاء والطاقة. إلا أن السياسات العامة يجب أن تتوسع لتشمل برامج الحماية الاجتماعية القائمة على التوظيف أو الاشتراك، والتي تستهدف إنهاء الأسباب الأساسية للفقر بدلًا من التخفيف منه.

ومن مقترحات الحد من أسباب الفقر متعدد الأبعاد العمل على مشروعات محلية للخدمات العامة، من شأنها خلق فرص عمل للأشد فقرًا في مجتمعاتهم المحلية بالإضافة إلى توفير الخدمات الأساسية وبرامج العمالة المرِنة. هذه المشروعات من شأنها رفع مهارات الفئات الأكثر تهميشًا عن طريق توفير التدريبات اللازمة ثم تشغيلهم في الوظائف التي تم خلقها مثل رعاية الأطفال، وموظفي التغذية بالمدارس، وعمّال النظافة والصيانة، والطهاة، وعمّال الحدائق وعمّال البناء.

أما بالنسبة لعدم المساواة بناءً على النوع الاجتماعي في سوق العمل، فإن ارتفاع معدلات التعلّم بين الإناث لم ينعكس على ارتفاع مستويات مشاركة النساء في سوق العمل في معظم دول منطقة الشرق الأوسط (Assaad et al. 2018). ولذا فمن الضروري تفعيل قوانين مُلزِمة بالمساواة في سوق العمل وإجراءات تضمن تمكين النساء.

وبحسب تقرير حديث للبنك الدولي (2019)، لا يزال من غير المسموح للنساء في الشرق الأوسط بالعمل في بعض المجالات. بل إن أي عمل خارج المنزل قد يُعد أمرًا غير أخلاقي في بعض الأحيان. وعلى عكس الرجال، تتحمل النساء عادةَ مسؤوليات أعمال المنزل غير مدفوعة الأجر، مثل رعاية الأطفال ورعاية كبار السن أو المرضى من الأقارب. وهكذا فمن المُنتظر من السياسات الاجتماعية والاقتصادية التخفيف من تلك الأحمال والتأسيس للمساواة بين الجنسين في المنطقة.

نقص البيانات حول الأبعاد الأخرى

التحوّل لقياس الفقر متعدد الأبعاد أصبح أمرًا ملَحًّا، إلا أنه لا يزال هناك نقص عام في البيانات حول مواقف الناس ونظرتهم لبعض الأبعاد الاجتماعية الأخرى غير المُقاسة، مثل المساواة على أساس النوع الاجتماعي، والسلامة النفسية والجسدية، وحرية الحركة، وحرية التعبير، والعُزلة أو التواصل الاجتماعي، والمعايير الاجتماعية والقيم الثقافية. مثل تلك الأبعاد لا ذكر لها في معظم الإحصاءات والأبحاث، مثل بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك (HIECS). ولهذا السبب يجب أن تركز السياسات الهادفة لتقليل الفقر متعدد الأبعاد على الأنواع والأبعاد المختلفة للاحتياج في نفس الوقت. ويجب تقييم نتائج هذه السياسات بناء على بيانات دقيقة لتحديد أسباب وطُرُق الحد من مستويات الفقر متعدد الأبعاد. ويجب أن تحدد هذه البيانات كل الأبعاد الهامة للفقر بالإضافة إلى المتغيرات المتعلقة بالممتلكات المادية.

[i] وفقًا لتصنيف البنك الدولي تتضمن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الدول التالية: الجزائر والبحرين وجيبوتي ومصر وإيران والعراق والأردن والكويت ولبنان وليبيا والمغرب وعمان وقطر والسعودية وسوريا وتونس والإمارات العربية المتحدة والضفة الغربية وغزة واليمن.

المراجع

Alkire, S. (2007). The missing dimensions of poverty data: Introduction to the special
issue. Oxford development studies, 35(4), 347-359.
Alkire, S., Conceição P., & Barham A. et. al., (2019). Global Multidimensional Poverty Index
2019: Illuminating Inequalities, United Nations Development Programme and Oxford Poverty
and Human Development Initiative.
Anand, S., & Sen, A. (1997). Concepts or human development and poverty! A
multidimensional perspective. United Nations Development Programme, Poverty and human
development: Human development papers, 1-20.
Assaad, R., Hendy, R., Lassassi, M., & Yassin, S. (2018). Explaining the MENA Paradox: Rising
Educational Attainment, Yet Stagnant Female Labor Force Participation (No. 11385). Institute
for the Study of Labor (IZA).
Koç, A. A., Ozdamar, O., & Uysal, P. (2017). The Economic Determinants of Food Security in
the MENA Region. International Journal of Food and Beverage Manufacturing and Business
Models (IJFBMBM), 2(1), 1-19.
Marks, S. (2009). Health, Development, and Human Rights. In: A. Gatti and A. Boggio (eds.):
Health and Development toward a Matrix Approach. London: Palgrave Macmillan: 124-139.
Ozdamar, O., & Giovanis, E. (2016). The Effect of Survivors’ Benefits on Poverty and Health
Status of Widowed Women: A Turkish Case Study. Journal of Applied Economics and
Business Research, 6, 232-250.
Ozdamar, O., & Giovanis, E. (2017). The causal effects of survivors’ benefits on health status
and poverty of widows in Turkey: Evidence from Bayesian Networks. Economic Analysis and
Policy, 53, 46-61.
Samuel, K., Alkire, S., Zavaleta, D., Mills, C., & Hammock, J. (2018). Social isolation and its
relationship to multidimensional poverty. Oxford Development Studies, 46(1), 83-97.
Sen, A. K. (1985) Commodities and Capabilities, Professor Dr P. Hennipman Lectures in
Economics (Amsterdam, New York, North-Holland: Elsevier Science)..
Sen, A. (1999). Development as Freedom. Oxford: Oxford University Press.
Trani, J. F., Bakhshi, P., Bellanca, N., Biggeri, M., & Marchetta, F. (2011). Disabilities through
the Capability Approach lens: Implications for public policies. Alter, 5(3), 143-157.
UNICEF (2019), Health in MENA, https://www.unicef.org/mena/health .
World Bank (2018). Expectations and Aspirations: A New Framework for Education in the
Middle East and North Africa (English). Washington, D.C. : World Bank Group.
World Bank (2019). Women, Business and Law, International Bank for Reconstruction and
Development World Bank, Washington DC.

Read Also