في إصدار هذا الأسبوع من عدسة، نلقي نظرة على مشاريع الإنتاج السمكي في مصر وأثرها غير الملموس على أسعار السمك. كما نسلط الضوء على ارتفاع نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي، مدى خطورتها، وتوصيات لمؤشرات ديون أكثر أمانًا.

الأسماك في مصر: تضخم في الأسعار.. تضخم في المشاريع

عقد الرئيس عبدالفتاح السيسي، في 4 سبتمبر، اجتماعًا مع عدد من مسؤولي جهاز الخدمة الوطنية في مجال تنمية الثروة السمكية، وذلك بالرغم من إعلان الحكومة سابقًا عزمها على التخارج التام من قطاع الاستزراع السمكي، حسب وثيقة ملكية الدولة في يونيو 2022. وبينما يشهد الاستزراع المائي المصري تطورًا سريعًا في حجم المشاريع الجديدة على مدار السنوات الـ8 الماضية، فإن سوق الأسماك المحلية ما زالت تعاني ارتفاعًا حادًّا في الأسعار. وصل معدل التضخم في الأسماك والمأكولات البحرية في أغسطس 2023 إلى 83.6% على أساس سنوي، ما يثير أسئلة حول جدوى الاستثمارات التي ضختها الدولة لتعزيز الثروة السمكية، والتحديات التي يواجهها هذا القطاع في مصر.

إنتاج أعلى وفجوة غذائية أكبر؟

تعتمد السوق المحلية على المزارع السمكية كمصدر رئيسى بنسبة 80%، وبالرغم من تزايد إنتاج هذه المزارع عبر السنوات الماضية، فلم تحقق الدولة أهدافها من دخول إحدى مؤسساتها في مجال الثروة السمكية بشكل مكثف، وعلى رأس هذه الأهداف تحقيق الأمن الغذائي وإحداث توازن في سوق الأسماك بضبط الأسعار وتخفيضها، وتقليل الواردات بنسبة 30%، وزيادة الصادرات المصرية إلى 2.3 مليون طن أسماك لجذب العملة الصعبة.

وتشير البيانات إلى أنه بالرغم من التوسع في مشاريع الاستزراع السمكي وزيادة معدلات الإنتاج في الفترة بين 2016 و2022، فإن الفجوة الغذائية في الأسماك تضاعفت وأسعار المأكولات البحرية زادت بما يعادل 4 أمثال عمَّا كانت عليه قبل 2016 . ويرجع ذلك إلى زيادة معدلات الاستهلاك المحلي للأسماك في مصر كونها مصدرًا رئيسيًّا للبروتين الحيواني الرخيص لأعداد متزايدة من السكان، مقارنة باللحوم والدواجن التي تشهد تضخمًا غير مسبوق في أسعارها أيضًا. وتوضح التقارير المختصة أن الزيادة السنوية في أسعار الأسماك تؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي، ما يثير الشكوك حول جدوى تحقيق معدلات اكتفاء ذاتي عالية، إن كانت لا تساهم في خفض الأسعار أو ترفع من قدرة المواطنين على الوصول إلى الأسماك.

تحديات تنمية الثروة السمكية في مصر

1. احتكار الدولة إنتاج الأسماك

تأسست الشركة الوطنية للاستزراع السمكي والأحياء المائية، التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية في 2015، وتزامن دخولها في السوق بقوة مع تراجع دور الهيئة العامة للثروة السمكية بعد تخفيض ميزانيتها، وإلغاء الصندوق القومي لدعم إمكاناتها. وتخصصت الهيئة التي تأسست في الثمانينيات في تأجير المزارع السمكية للصيادين مع إمدادهم بـ"الزريعة السمكية" وهي الأسماك صغيرة السن، بأسعار مناسبة، وتوفير الدعم لهم.

وزاحمت الشركةُ الوطنيةُ الصيادين في حصتهم من السوق، حيث رفعت القيمة الإيجارية للفدان من المزارع السمكية، وفرضت رسومًا مالية على كل كيلوجرام من الأسماك يتم صيده، وهو ما أدى إلى تراكم الديون على صغار الصيادين العاملين في المزارع وخروج كثير منهم من السوق بسبب المنافسة غير العادلة.

وأطلقت الحكومة عدة مشاريع في السنوات الأخيرة عن طريق الشركة الوطنية، وأعادت تخصيص بعض الأراضي لها، وتشمل أهم المشاريع:

2. ارتفاع أسعار أعلاف الأسماك

تضررت صناعة الاستزراع المائي في مصر، من ارتفاع أسعار الحبوب والعلف المستورد بنسب تصل إلى 300%. وتساهم أعلاف الأسماك بنسبة من 85% إلى 90% من إجمالي تكلفة الإنتاج. وهو ما دفع العاملين في الصناعة إلى مطالبة الحكومة مرارًا بإلغاء الجمارك على الأعلاف والمواد الخام لدعم المزارع، وهو ما قد يسهم فى خفض التكلفة النهائية لأسعار الأسماك.

3. استنزاف المصائد بسبب ارتفاع نسب التلوث في الدلتا

انخفض الإنتاج من المصائد الطبيعية (تصل نسبتها إلى 20% من إجمالي الإنتاج السمكي) بسبب ارتفاع نسب التلوث وغياب الرقابة على إلقاء النفايات الصناعية والمواد الكيميائية ومياه الصرف، والتي أثرت في سلامة الأسماك وسرعة نفوقها. هذا بالإضافة إلى اعتماد المزارع على مياه الصرف الصحي، وهو ما يزيد تكلفة تطهير هذه المياه وإعادة استخدامها.

4. الأثر السلبي للتغير المناخي

لأن أحواض الاستزراع السمكي غير عميقة، فإنها تتأثر بالتبخر نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وتغير المناخ. وأصبحت أنواع كثيرة من الأسماك غير قادرة على البقاء على قيد الحياة في تلك المياه الدافئة، التي أصبحت أيضًا أكثر ملوحة، ما انعكس في تباطؤ نمو الإنتاج المحلي.

التوسع في استثمارات التنمية السمكية الضخمة غير كافٍ

ما زالت مصر تستورد أسماكًا بنسبة 15%، ولم تستطع أن تحقق إنجازًا في التصدير بسبب وجود مشاكل في الاشتراطات الصحية في أوروبا وبعض دول الخليج ومعايير الجودة التي لم يستطع الإنتاج المصري الوفاء بها، وارتفعت أسعار الأسماك لتصل إلى معدلات غير مسبوقة، ما يؤكد أن مشاريع التنمية السمكية الضخمة غير كافية، ويستوجب حلول موازية.

فإلى جانب أهمية إيجاد بدائل لتوفير الأعلاف بأسعار ملائمة أو إنتاجها محليًّا، تحتاج الدولة إلى استعادة دور هيئة تنمية الثروة السمكية في دعم المزارع السمكية لأصحاب الحيازات الصغيرة والمتوسطة، والعودة إلى ممارسة دور تنظيمي ورقابي مؤسسي يسعى إلى خلق مجال تنافسي عادل، ويتماشى مع وعدها بالتخارج من النشاط خلال 3 سنوات، وتركه للقطاع الخاص. هذا بالإضافة إلى توجيه جزء من الاستثمارات التوسعية إلى تدابير التكيف مع المناخ في الدلتا، ومساعدة الصيادين والعاملين في المهنة على الانتقال إلى ممارسات وتقنيات صيد أكثر استدامة وأقل تلويثًا للبيئة.

الدَّين العام والناتج المحلي.. هل نحن آمنون؟

صرح نائب وزير المالية، أحمد كوجك، في 5 سبتمبر 2023، بأن المؤشرات الأولية تشير إلى وصول نسبة الدَّين المصري إلى 95% من الناتج المحلي الإجمالي خلال 2023/2022 بزيادة 17% عن العام المالي الأسبق له، مؤكدًا أن فروق سعر الصرف هي العامل الأساسي في زيادة تلك النسبة. وبالرغم من تأكيدات المسؤولين بأن معدلات الاستدانة المصرية ما تزال في الحدود الآمنة، وتكرار مقارنتنا بدول مثل اليابان، فإننا تجاوزنا سقف معدلات الأمان التي يحددها صندوق النقد الدولي عند 70% كنسبة للدَّين من الناتج المحلي الإجمالي، للدول ذات الأسواق الناشئة مثل مصر. ويزيد ارتفاع نسبة الديون المقومة بالعملة الأجنبية وغياب خطة واضحة لسداد الديون من هشاشة الوضع المصري، خاصة في ظل سعي الحكومة المصرية إلى مزيد من الاقتراض.

أهمية نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر

تشير نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى مدى قدرة البلد على سداد ديونه، فكلما ارتفعت النسبة زاد خطر التخلف عن السداد وطالب الدائنون بأسعار فائدة أعلى للاقتراض، ما يؤثر سلبًا على وضع البلد الاقتصادي في الأسواق المحلية والدولية. ووجدت دراسة أجراها البنك الدولي أن البلدان الناشئة التي تتجاوز نسبة ديونها إلى الناتج المحلي الإجمالي 77% لفترات طويلة، تعاني تباطؤًا كبيرًا في النمو الاقتصادي، حيث يؤدي كل 1% من الديون فوق هذا المستوى إلى تباطؤٍ قدره 0.02% في النمو الاقتصادي. ويمنع هذا الانخفاض في النمو الاقتصاد المحلي من الوصول إلى إمكاناته الكاملة، لالتهام الديون أية زيادة ممكنة في الناتج. وتشير الدراسات إلى أن الدول ذات النسب المنخفضة كانت أسرع في التعافي من الأزمات المالية العالمية عن نظيراتها ذات نسب الديون المرتفعة.

وبالرغم من أهمية ذلك المؤشر في قياس الأداء الاقتصادي لبلد بعينه، فإنه غير كافٍ، إذ إن عوامل أخرى، مثل هيكل الدَّين نفسه ونسبته إلى معدل الصادرات والإيرادات الضريبية وصافي الاحتياطي الأجنبي ومعدلات النمو المتوقعة، مهمة لتحديد وفهم ما يعنيه الرقم.

ما الذي يجعل النسبة الحالية أشد خطورة على مصر؟

الأزمة الاقتصادية الحالية: تفاقِم من خطورة ارتفاع نسبة الدَّين، بسبب ارتفاع أسعار الفائدة وتخفيض سعر صرف الجنيه المصري بشكل مستمر، ما يزيد من تكلفة خدمة الدَّين ويؤدي إلى اتساع عجز الموازنة التي لا تشهد زيادة مستدامة في الإيرادات. ينتج من ذلك ارتفاع نسبة الدَّين إلى الناتج، وهروب المستثمرين، وتراجع التصنيفات الدولية للبنوك والحكومة المصرية، ما يدخلنا في دائرة مفرغة.

ارتفاع نسبة الديون المقومة بالعملة الأجنبية إلى إجمالي الديون: حيث أن ثلث الدَّين العام المصري مقوم بالعملة الصعبة، ما يزيد من هشاشة الوضع، ويجعل مقارنة نسبة ديون مصر ببلادٍ مثل اليابان (وصلت النسبة فيها في 2021 إلى 255%) لا تصلح. فعلى الرغم من ارتفاع تلك النسبة في اليابان بشكل قياسي، فإنها لا تمثل خطورة اقتصادية كبيرة لأن نسبة كبيرة من الديون اليابانية مقومة بالعملة المحلية، بالإضافة إلى احتفاظها بمعظم ديونها محليًّا، وامتلاكها عددًا ضخمًا من الأصول الأجنبية.

العجز عن خفض نسبة الدَّين سابقًا: فشلت الحكومة سابقًا في خفض نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلي من 97% في 2017 إلى 79.5% بحلول 2022 وفقًا لإستراتيجية إدارة الديون التي أعلنتها في 2019، ووصلت النسبة إلى 88.53% في ذلك العام. وفي 2022، أعلنت الحكومة استهدافها وصول نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي إلى 75% بحلول عام 2026، إلا أنها تسعى إلى مزيد من الاقتراض من خلال طرحها سندات الساموراي والباندا للحصول على تمويلات خارجية جديدة بقيمة 2 مليار دولار قبل نهاية 2023.

وترى د. رباب المهدي، أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية، أنه بالإضافة إلى الابتعاد عن المعدلات الآمنة التي تحددها المؤسسات الدولية، فإن المشكلة الأكبر تكمن في افتقاد إستراتيجية وتصورات عملية للسداد. تُشبِّه المهدي الحالة المصرية بشخص يقترض لمروره بضائقة مالية، ثم يلجأ إلى الاستدانة ليسد القرض الأول في مقابل شخص آخر قد يستدين بمبالغ أكبر ولكن لديه خطة عملية للسداد عن طريق عمل إضافي. وبالعودة إلى الوضع المصري، فالأزمة تكمن في عدم وجود برامج محددة لزيادة الناتج المحلي الإجمالي تضمن لنا فائضًا لسداد الديون المتزايدة وتضعنا في حدود المعدلات الآمنة، آخذة في الاعتبار تغير أسعار الصرف.

توصيات لمؤشرات ديون أكثر أمانًا

ومن أجل خفض نسبة الدَّين من إجمالي الناتج المحلي بشكل فعال ومستدام، بالإضافة إلي تجنب الإفراط في الاقتراض، يؤكد الخبراء على أهمية تعزيز النمو الاقتصادي، وتحسين إدارة المالية العامة، والمشاركة في برامج مبادلة الديون.

ومن شأن تلك التدابير أن ترفع من إيرادات الدولة وتحسن من جدارتها الائتمانية، ما سينعكس إيجابيًّا على نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي، ويقلل من اعتمادها على الاقتراض الخارجي.

للاشتراك في موجز "عدسة" الأسبوعي

"عدسة" موجز أسبوعي من "حلول للسياسات البديلة"، يقدم تحليل سريع لأهم الأخبار والتطورات المتعلقة بالسياسات المحلية والأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للتنمية العادلة.