في نوفمبر 2021، حُكم على ثلاثة من المدعى عليهم في قضية الاغتصاب المعروفة إعلامياً بقضية الفيرمونت، والعائدة إلى عام 2014، بالسجن المؤبد بعد إدانتهم في قضية اعتداء جنسي آخر وقع في عام 2015 (Egypt Today, 2021). كان الحكم بالعقوبة موضع ترحيب هادئ بين داعمي الضحية/الناجية، وكذلك بين عدد كبير من النسويات المصريات اللاتي قضين شهورا على الإنترنت في شن حملة لمناصرة ضحية الفيرمونت ولفت الأنظار إلى الوضع العام لحقوق المرأة.

لكن الحكم كانت له أيضا تكلفة باهظة تكبدتها الضحية/الناجية والشهود، إذ تعرض بعضهم للتشهير، وتحملوا شهورا من الحبس الاحتياطي على ذمة التحقيق في تهم لم تتبين طبيعتها قط، وخضعوا لكشوف العذرية على يد السلطات مع تقدم سير التحقيق (Mada Masr, 2020). وفي محصلة هذه الأحداث غير المفهومة أحيانا، كان يمكن للمرء ولا يزال يمكنه أن يستشعر هبوط المعنويات بين من لجأن ولجأوا إلى منصات وسائل التواصل الاجتماعي في صيف 2020 للاحتشاد ضد منفذي جريمة الفيرمونت والظلم القائم على النوع الاجتماعي على مستوى أكبر.

إن المعركة المشار إليها آنفا والتي دارت على الإنترنت (وشقت طريقها أحيانا إلى القنوات الإعلامية المصرية) هي انعكاس لرؤية العدالة من منظور سائد إعتقالي. وبعبارة أخرى، كانت الغاية النهائية من ’الحركة‘ المتكونة حول قضية الفيرمونت هي مراكمة زخم يتمثل في الانتشار الهائل على الإنترنت بما يكفي لتقديم المتهمين إلى العدالة أمام المحكمة. وعلى الرغم من أنها لم تبدأ بالضرورة كذلك، إلا أنها انتهت بمناشدة للنائب العام، على نحو يعكس فهما سائداً للدولة كسبيل يمكن اللجوء إليه لتحقيق العدالة لقاء الأذى الجنسي والمتصل بالنوع الاجتماعي.

وهناك مقاربة بديلة للنسوية مناهضة للسجن تدفع بأن التماس العدل عند الدولة، بواقعها القائم، للفصل في مظالم النساء، هو ببساطة غير ممكن. ويرجع هذا إلى الرؤية القائلة بأن الدولة جزء لا ينفصم من العنف الأبوي الواقع على النساء كل يوم – وهو أمر بيِّن يتجلى، على سبيل المثال، في الصعوبة الإجرائية سيئة السمعة عند الإبلاغ عن هذا العنف الجنسي والافتقار إلى الدعم الطبي والنفسي على مدار العملية الإجرائية. فإذا كانت الدولة في صلب كيانها أبوية، كيف لنا أن نتوقع منها جادين أن تنصفنا في المظالم المتعلقة بالنوع الاجتماعي؟ هذا هو السؤال الذي تطرحه النسوية المناهضة للاعتقالية.

إن مشكلة اللجوء إلى الدولة التماسا للعدل ليست مجرد مشكلة تتعلق بانعدام كفاءة الإجراءات أو انعدام اتساقها أو قصورها – وهي مشاكل كان بعضها جليا في قضية الفيرمونت. بل تكمن المشكلة أيضا (من وجهة نظر النسوية المناهضة للاعتقالية) في الأسانيد الفلسفية لهذا اللجوء. وبعبارة أخرى، تميل المقاربات المنادية بالحبس إلى التركيز على العقاب والقِصاص، لا على إحداث تحول اجتماعي وعلى الوقاية. وفي واقع الأمر، من شأن التركيز على العقاب والقِصاص أن يطبع المجتمع بطابع الاعتقالية[1]، أي أن يجعل منه مجتمعا يعتمد على زيادة المراقبة، ويميل إلى شيطنة شباب الطبقة العاملة، ويقوم على فهم مشوه لعلاقات النوع الاجتماعي، وفي نهاية المطاف تطبيع السجن بذاته كآلية ’تصحيحية‘ صالحة لأي علل اجتماعية متصورة[2].

لكل هذه الأسباب، تدعو النسويات المناهضات للاعتقالية إلى العدالة التحويلية بديلا عن العدالة الاعتقالية الميسَّرة من جانب الدولة. والعدالة التحويلية قوامها مقاربات من أسفل إلى أعلى توظف "مجموعة مرنة من السياسات والممارسات المكرسة للتعبئة الجماعية والمجتمعية، والممارسات غير العقابية الخاصة بالمساءلة، ونظرية وممارسة تخصان الوقاية من العنف والتدخل الذي يتصدى لسياق الاضطهاد التاريخي والماثل في نسق المنظومة" (Kim, 2020, p. 319). وبشكل أكثر تحديدا، فهي إطار طرحته النسويات السوداوات في الولايات المتحدة مع صعود مجمع السجن-الصناعي[3] (ولا يضاهيه في الوقت الحالي مثيل في العالم من حيث حجمه؛ 20% من سجناء العالم محتجزون في سجون أمريكية [American Civil Liberties Union, n.d.]). ويسعى هذا الإطار إلى رفع الضرر الواقع داخل مجتمع صغير بشكل مستقل عن "الذراع العقابية للدولة": الشرطة والسجون والقانون الجنائي (Terwiel, 2020, p. 432). ويتكفل هذا الإطار، طويل المدى والمتمركز حول الضحية/الناجية، بالتصدي للأسباب الجذرية للعنف داخل مجتمع صغير ما، بدلا من التركيز على العقاب كغاية.

وفق النموذج النمطي فإن العدالة التحويلية مجتمعية وتعمل بتيسير من المجتمع الصغير وتشتمل على:

(1) دعم الناجيات والناجين فيما يتعلق بتعافيهن وتعافيهم و/أو أمانهن وأمانهم والعمل بالتعاون مع الشخص الذي أحدث الضرر لكي يتحمل المسؤولية عن الضرر الذي أحدثه، و(2) بناء قدرات أفراد المجتمع الصغير بحيث يمكنهم دعم التدخل، وكذلك مداواة أي ضرر تورطوا فيه و/أو تحمل المسؤولية عنه، و(3) بناء المهارات لمنع حدوث العنف، ودعم مهارات أفراد المجتمع لإيقاف العنف أثناء حدوثه (Mingus, 2019, para. 15).

كثيرا ما يتحقق هذا باستخدام عملية مساءلة مجتمعية، ومن خلالها يحاسَب مسبب الضرر على أفعاله عن طريق واحد أو أكثر مما يلي: "الاعتذار، والتعويض، وإصلاح الضرر الواقع بسبب أفعاله و...العمل على تغيير سلوكه بحيث لا يتكرر الضرر" (Mingus, 2019, para. 16). وإلى جانب معارضتها لتركيز النظام الرسمي على العقاب بصورة غير متناسبة وغير فعالة كما أشير آنفا، تعطي المساءلة المجتمعية مزايا وأولوية لاحتياجات ورغبات الضحية/الناجي(ة). فقرار المضي قدما في اتخاذ إجراءات مساءلة مجتمعية من عدمه يعود أولا وأخيرا للضحية/الناجي(ة).

في بيان تلخيصي يقدم تفاصيل عملية إجرائية من هذا النوع افتتحتها في نوفمبر 2015 منظمة مشروع الشباب الأسود (BYP100) - وهي منظمة قائمة على العضوية منشؤها شيكاغو وتتألف من نشطاء شباب سود - تقول الميسرة الإجرائية الأولى (والمنادية البارزة بإلغاء السجون) ماريام كابا، مذكرةً القراء

عمليات المساءلة المجتمعية الضاربة بجذورها في مفهوم العدالة التحويلية ليست للجميع. هذه نقطة بحاجة إلى التشديد عليها... لا إكراه في الأمر لأن ذلك من شأنه أن يكون نسخة أخرى من القوى القمعية التي نسعى إلى تقويضها [التوكيد من عندي]. فمن اللازم أن تختار جميع الأطراف بحرية أن تشارك. بصفتي ناجية من العنف الجنسي، لا أتوقع أبدا أن يشارك جميع الضحايا/الناجيات/الناجين في عمليات المساءلة المجتمعية ولا أفترض أبدا وجوب هذا عليهن وعليهم. أنا أعمل مع أولئك اللاتي قررن أنهن يردن والذين قرروا أنهم يريدون السعي إلى المساءلة والتعافي خارج نطاق الاعتماد على مؤسسات الدولة ودون التركيز على العقاب. هذا ليس أمرا مفروضا بالقوة. إنه اختيار فردي يجب احترامه على نفس النحو الذي تستحقه أيضا الاختيارات الأخرى للناجيات والناجين (Transforming Harm, 2017, para. 12).

النقطة المفصلية التي تسترعي الانتباه هنا هي تَعذُّر تحقيق إطار خاص بالعدالة التحويلية في غياب جماعات أو مجتمعات عفية ديمقراطية آلت على نفسها تطبيق مبادئ وممارسات مناهضة للاعتقالية. أي أن العدالة التحويلية كنهج منفصل تمام الانفصال عن منطق الدولة، ومن ثم جهاز الدولة، تعتمد فعاليتها (بل وجودها نفسه) اعتمادا كليا على الفاعلين المستقلين المستعدين لتعلم المبادئ سابقة الذكر واستكشافها وتطبيقها عبر عملية طويلة المدى من التجربة والخطأ. وهذا هو الحال بالفعل في مساحات نقدية بعينها (قليلة جدا) جربت أساليب بديلة للعدالة إقرارا منها بأهميتها البالغة في مواجهة مجتمع/دولة يطبعهما على نحو متزايد طابع الاعتقالية (Elturkey, 2020).

تأتي هذه التجارب من سياقات شتى وهي بعيدة عن الكمال. على سبيل المثال، انتهت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في 2018 من وضع مسودة السياسة الداخلية التي تشرح تفاصيل الإبلاغ عن حالات التحرش الجنسي في مكان العمل والخطوات الإجرائية ذات الصلة. ومنذ ذلك الحين "استعارت" تلك السياسة (أو عناصر منها) منظمات أخرى من المجتمع المدني، مثل مؤسسة حرية الفكر والتعبير (AFTE, 2021). وقبل ذلك، كان حزب العيش والحرية قد حاول وضع آليته التحقيقية المستقلة الخاصة به استجابة لمزاعم التحرش الجنسي الصادرة عن إحدى عضوات الحزب (Elturkey, 2020). وقبل أي من هذا بوقت طويل، استخدمت مجموعة قوة ضد التحرش (OpAntiSH) طريقة التدخل المباشر استجابة لتفشي الاعتداءات الجنسية الواقعة في خضم انتفاضة 2011 في القاهرة (Piquemal, 2015).

ونظرا لاستقلاليتها، فإن نتائج عملية التجربة والخطأ بتعقيداتها محكومة بالمعايير والمبادئ السياسية الخاصة بالأطراف الشريكة فيها. ولهذا، يمكنها في بعض الحالات أن تفاقم الضرر الواقع بالفعل إذا لم تكن قيم أعضاء الجماعة على وفاق مع أهداف عملية العدالة التحويلية[4]. واعترافا بهذا التعقيد (الجوهري)، يقر أنصار العدالة التحويلية بوجوب تمكُّن الضحايا في نهاية المطاف من اختيار ما إذا كن سيلجأن إلى نظام العدالة الجنائية أم لا: "بالنسبة للبعض، فإن جعل الدولة تُقر بالفظائع التي تعرضن لها أمر شديد الأهمية كي يشعرن بالحماية ولإبقاء المعتدين عليهن على مسافة منهن تمنعهم من التعرض لهن." (Makram-Ebeid, 2018, para. 38). والحق أن التأكيد على حرية الضحية/الناجية في اختيار اتباع قنوات رسمية للشكوى أمر لا يمكن التهوين من شأنه، على الأخص في السياقات التي ما زلنا لا نرى فيها بديلا مُرضيا لهذه القنوات.

وفي هذه الأثناء، وبالتوازي مع تخيل وتصور هذا الفعل المتمثل في إقامة بنيان جديد للعدالة، قد يكون فك الارتباط مع البنيان القائم فكرة سديدة. وفك الارتباط هذا يمكن أن يحدث على مستوى مؤسسي وخطابي. وفيما يتعلق بالمستوى الأول، فإن التوصيات بالتقليل الفعلي لعدد القوانين وشدة العقوبات المتعلقة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي لها أهميتها (Abdelaty, 2020). ولعل هذا موقف من غير المألوف اتخاذه حيال المسألة، لكنه موقف أُقر بأهميته في ضوء انعدام الفعالية المتزايد وعدم تنفيذ القوانين السارية. ومن ثم تتمثل خطوة ضرورية في قيام الأطراف المعنية (الحكومة والمجتمع المدني والجمهور الواسع) بـ"العمل معا لمراجعة وفحص القوانين والعقوبات السارية، والتصدي وفقا لذلك للقيود التي حُدِّدت" (Abdelaty, 2020, p. 43). من المهم إعادة توجيه الطاقات التشريعية والحقوقية وبالتالي تلك الخاصة بالميزانية بعيدا عن التوجهات المتطلعة إلى نماذج عالمية للتجريم المفرط (Hosny, 2021)، وإنما نحو إنشاء منصات لنشر المعلومات المتعلقة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي في المدارس وغيرها من القنوات التعليمية كتدبير وقائي (Abdelaty, 2020). أما بالنسبة للمستوى الثاني، فلا بد أن تكون الحوارات النسوية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي واعية بظاهرة التجريم المفرط التي تتكشف اليوم. وللأسباب آنفة الذكر، يجب أن تُجرى هذه الحوارات وفي الأذهان غاية أو مثال غير الحبس، لتطرح سؤالا منفتحا على مهمة صعبة أمامنا: كيف نتخيل ’عدالة‘ تتجاوز أدوات الدولة المتمثلة في الاعتقالية؟

تدعونا النسوية المناهضة للاعتقالية إلى فهم أفضل لانعدام التوافق بين هذه الأدوات وبين مستقبل عادل، حيث تمثل الأولى عقبة أمام الثاني. لكن التخلي عنها ليس إلا جانبا واحدا من العمل الضروري في سبيل تطبيق ممارسات العدالة التحويلية. بالفعل، كما أكدت ميا مينجوس، المنادية بإلغاء السجون، "العدالة التحويلية ليست مجرد غياب الدولة والعنف...وإنما هي حضور القيم والممارسات والعلاقات التي نريدها والعالم الذي نريده" (para. 11). ولا يتسنى جعل هذا الحضور ممكنا إلا من خلال عملية تراكمية متمثلة في العمل الجماعي - عملية بناء - تحدث على مدى فترات زمنية طويلة.

[1] فشخصية القائم بفعل التحرش الجنسي غالبا ما تُقدَّم في صورة الشاب الفقير المسعور غير المتحضر. وهذا التصوير ناتج عن الجهود المبذولة من جانب الدولة والأطراف المعنية على السواء عن طريق حملات التوعية وغير ذلك من الأشكال الإعلامية، وقد استغلته الدولة تاريخيا كأداة إستراتيجية للتضييق على الحيز العام والتجمُّع. لمطالعة استعراض عام لهذه الظاهرة، انظر/ي (Tillous and Lachenal (2021 و(Amar (2011.

[2] من التنمر في مكان العمل إلى نشر محتوى مؤثر على تيك توك. انظر/ي (Gamal El-Din (2021 و(Ahram (2021 على سبيل المثال.

[3] مجمع السجن-الصناعي مصطلح يستعمله المنادون بإلغاء السجون "تحديا للمعتقدات السائدة الذاهبة إلى أن ارتفاع مستويات الجريمة هو السبب الجذري في تزايد أعداد المساجين وقد حاججوا، بدلا من ذلك، بأن بناء السجون وما يصاحبه من دافع يحفز على ملأ هذه المباني الجديدة بأجساد البشر أخذت تغذيه العنصرية وأيديولوجياتها والسعي إلى الربح." (Davis, 2003, p. 84).

[4] تعرضت الحالة الخاصة بحزب العيش والحرية، على سبيل المثال، للنقد على أساس استنساخها للجمود الخاص بعمليات التحقيق الرسمية. لمطالعة تحليل معمق لهذه الحالة، انظر (Makram-Ebeid (2018 و(Elturkey (2020.

مراجع

Read Also